ترجمة: د. محمد سبيلا
ليست الحداثة مفهوما سوسيولوجيا، ولا مفهوما سياسيا، وليست بالتمام مفهوما تاريخيا، بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي،
أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية. فمقابل التنوع الجغرافي والرمزي لهذه الأخيرة تفرض الحداثة نفسها على أنها شيء واحد متجانس، يشع عالميا انطلاقا من الغرب.ومع ذلك فهي تظل مدلولا ملتبسا يشير إلى تطور تاريخي وإلى تغير في الذهنية.
إن الحداثة، من حيث هي معطى متشابك تتلاحم فيه الأسطورة بالواقع، واقع يتميز في كل المجالات، دولة عصرية، تقنية عصرية، موسيقى ورسم وعادات وأفكار عصرية، على هيأة مقولة عامة وضرورة ثقافية. ومن حيث أنها نشأت عن بعض التحولات العميقة في التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، فهي تتحقق على مستوى العادات وطرائق العيش، وأنماط الحياة اليومية، وقد تبلغ أحيانا صورة كاريكاتورية في النزعة التحديثية (Modernisme )، وبما أنها متحولة في أشكالها ومضامينها، في الزمن والمكان، فهي ليست ثابتة ولا تقبل الإحالة عليها إلا من حيث هي منظومة من القيم، وأسطورة. وبهذا المعنى يتعين كتابتها بحروف بارزة تماما.
وبما أنها ليست مفهوما يصلح كأداة للتحليل، فإنه ليست هناك قوانين للحداثة، بل فقط معالم للحداثة. ليست هناك أيضا نظرية في الحداثة، بل منطق للحداثة، وإيديولوجيا للحداثة. ومن حيث أنها أخلاقية مقننة للتغير فهي تتعارض مع الأخلاقية المقننة للتقليد. لكنها تحترس مع ذلك من كل تغير جذري، وتلك هي “تقاليد البحث عن الجديد”. إن الحداثة من حيث أنها مرتبطة بأزمة تاريخية، وأزمة بنية. ليست إلا عرضا لهذه الأزمة. وهي لا تحل هذه الأزمة بل تعبر عنها بطريقة عامضة وبهروب مستمر إلى الأمام. فهي تلعب دور فكرة قوية. ودور إيديولوجيا سائدة متسامية بتناقضات التاريخ إلى مفعولات الحضارة. فهي تجعل من الأزمة قيمة وأخلاقا متناقضة. ومن حيث أنها فكرة تتعرف فيها الحضارة على نفسها، فهي تضطلع بدور ووظيفة تنظيم ثقافي. وتلتحق -من ثمة خلسة- بالتقليد.
منشأ الحداثة
إن تاريخ لفظ حديث أقدم من تاريخ مصطلح “الحداثة”. ففي كل سياق ثقافي يتعاقب كل من القديم والحديث تعاقبا ذا دلالة. لكن مع ذلك لا توجد الحداثة، في كل مكان باعتبارها بنية تاريخية وجدالية تعبر عن التغير والأزمة. وهذه الأخيرة لا يمكن مشاهدتها إلا في أوروبا ابتداء من القرن السادس عشر، ولا تأخذ معناها الكامل إلا ابتداء من القرن التاسع عشر.
النهضة: تعتبر الكتب المدرسية أن اكتشاف أمريكا من طرف كريستوف كولومبوس هو بداية العصور الحديثة التي تلت العصور الوسطى. أما اختراع المطبعة، واكتشافات غاليلي. فهذه وقائع تفتتح النزعة الإنسانية الحديثة الخاصة بعصر النهضة. فعلى مستوى الفنون، وخاصة على مستوى الأدب، ستتطور الخصومة بين القدماء والمحدثين لتبلغ ذروتها في القرنين 17 و 18 . كما أن الأصداء العميقة للانقسام حول الحداثة قد ترددت في المجال الديني: وذلك في حركة الإصلاح الديني، (نشر (Luther ) في ويتنبرغ أطروحاته الخمسة والتسعين في 31 أكتوبر 1517 ) والقطيعة التي أحدثتها بالنسبة للبلدان البروتستانتية. لكن أيضا بانعكاساتها على العالم الكاثوليكي (اجتماع ترنت 1563-1545 ) ولن يأخذ اللفظ قوة إلا في البلدان ذات التقليد التليد، كالبلدان التي حافظت على التقليد الروماني وطقوسه وعاداته مع تجديد هذه التقاليد تدريجيا، ليس للحديث عن الحداثة أي معنى عندما يتعلق الأمر ببلد دون تقاليد وتراث، ودون عصور وسطى كالولايات المتحدة الأمريكية، وعلى العكس من ذلك فإن للتحديث تأثيرا قويا على بلدان العالم الثالث، التي هي بلدان ذات ثقافة تقليدية.
إن الالتقاء الذي حدث في البلدان، التي مستها النهضة الكاثوليكية، بين نزعة إنسانية علمانية ودهرية وبين طقوس دنيوية من الأشكال والعادات في العالم الكاثوليكي. يالاءم أكثر مع تعقد الحياة الاجتماعية والفنية الذي يقتضيه تطور الحداثة من مجرد تحالف العقلانية والنزعة الأخلاقية في الثقافة البروتستانتية. إذ أن الحداثة ليست فقط هي واقع الانقلابات التقنية والعلمية والسياسية الحادثة منذ القرن السادس عشر، بل هي أيضا لعبة الرموز والعادات والثقافة، هذه اللعبة التي تعكس التحولات في البنية على مستوى الطقوس والتهيئ الاجتماعي.
القرنان السابع عشر والثامن عشر:
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر أرسيت الأسس الفلسفية والسياسية للحداثة: الفكر الفرداني والعقلاني الحديث الذي يمثله ديكارت. وفلسفة الأنوار: الدولة الملكية المركزية بتقنياتها الإدارية التي تلت النظام الإقطاعي: أسس العلم الفيزيائي والطبيعي التي أنتجت الآثار الأولى لتكنولوجيا تطبيقية (الموسوعة). ومن الناحية الثقافية فإن هذه الفترة هي فترة الدهرنة الشاملة للفنون والعلوم (…) لم تصبح الحداثة بعد نمط عيش (إذ لم يكن اللفظ قد وجد بع). بل أصبحت فكرة (مرتبطة بفكرة التقدم). اكتسبت مباشرة شحنة بورجوازية ليبرالية لن تكف عن الالتصاق بها، إيديولوجيا، إلى الآن.
الثورة الصناعية والقرن العشرون:
لقد أقامت ثورة 1789 الدولة البورجوازية الحديثة، الممركزة والديمقراطية، والأمة بنظامها الدستوري، وتنظيمها السياسي والبيروقراطي. فأدخل التقدم المستمر للعلوم، والتقنيات، والتقسيم العقلاني للعمل الصناعي، في الحياة الاجتماعية، بعد التغير المستمر وتفكك العادات والثقافة التقليدية. وفي الوقت نفسه أدخل التقسيم الاجتماعي للعمل انقسامات سياسية عميقة، وبعدا جديدا يتمثل في الصراعات الاجتماعية، والأزمات التي ستتوالى عبر القرنين التاسع عشر والعشرين.
إن هذين المظهرين الأساسين، اللذين سينضاف إليهما النمو الديمغرافي، والتمركز الحضري، والتطور الهائل لوسائل الاتصال والإعلام، يطبعان، بصورة حاسمة، الحداثة كممارسة اجتماعية وكنمط حياة قائم على التغير والتجديد، لكن أيضا على القلق، وعلى عدم الاستقرار، وعلى التعبئة الدائمة، والذاتية المتحركة، والتوتر والأزمة، كما تظهر الحداثة أيضا، كتصور مثالي وكأسطورة. وبهذا المعنى فإن تاريخ ظهور اللفظ ذاته أمر ذو دلالة: إنها الفترة التي أخد فيها المجتمع الحديث يفكر في ذاته من حيث هو كذلك، وأخذ يتأمل ذاته من خلال ألفاظ الحداثة. وهكذا أصبحت الحداثة قيمة متعالية، ونموذجا ثقافيا وأخلاقيا، وأسطورة مرجعية حائرة في كل مكان، ومقنعة جزئيا للبنيات والتناقضات التاريخية التي ولدتها.
منطق الحداثة:
أ- مفهوم تقني-علمي
إن التطور الهائل، وخاصة منذ قرن، للعلوم والتقنيات، والتطور العقلاني والنسقي لوسائل الإنتاج، ولتسييرها وتنظيمها، يسم الحداثة بكونها عصر الإنتاجية، تكثيف العمل الإنساني والسيطرة الإنسانية على الطبيعة، اللذين اختزلا معا إلى مجرد قوى منتجة، وإلى خطاطة الفعالية والمردودية القصوى. وذاك هو القاسم المشترك بين كل الأمم الحديثة. وإذا لم تكن تلك الثورة، في القوى المنتجة قد غيرت الحياة، لأنها تترك علاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية دون تغيير، فإنها على الأقل عدلت ظروف الحياة بين جيل وآخر، وهي تحدث اليوم تحولات عميقة في الحداثة، الانتقال من حضارة العمل، والتقدم إلى حضارة الاستهلاك والتسلية. إلا أن هذا التحول ليس جذريا: فهي لا تغير من الغائية الإنتاجية، ومن تقسيم الزمن إلى آنات. ومن الضغوط التنبؤية والإجرائية التي تظل هي الإحداثيات الأساسية للأخلاق المعاصرة للمجتمع الإنتاجي.
ب- مفهوم سياسي:
“إن التجريد الملازم للدولة السياسية من حيث هي كذلك لا ينتمي إلا للعصور الحديثة، لأن تجريد الحياة الخاصة لا ينتمي إلاّ إلى العصور الحديثة. ففي العصور الوسطي كانت حياة الشعب وحياة الدولة متطابقتان. فالإنسان هو المبدأ الواقعي للدولة.. إن العصور الحديثة هي الثنائية المجردة، هي التعارض المجرد المفكر فيه” (ماركس ــــ نقد الدولة عند هيجل).
إن التعالي المجرد للدولة، تحت شعار الدستور، والكيان الشكلي للفرد، تحت شعار الملكية الخاصة، هي السمات التي تميز البنية السياسية للحداثة. فالعقلنة (البيروقراطية) للدولة، وكذا عقلنة المصلحة والوعي الخاصين، تتجاوب ضمن هذا الكيان التجريدي نفسه، وهذه الثنائية تطبع نهاية كل المنظومات السابقة، حيث تعرف الحياة سياسية نفسها بأنها تراتب متكامل من “العلاقات الشخصية…”. وهيمنة الدولة البيروقراطية إنما تنامت مع تقدم الحداثة. فهي، بارتباطها مع توسع مجال الاقتصاد السياسي واتساق التنظيم، تداهم كل قطاعات الحياة، وتسخرها لصالحها وتعقلنها على صورتها. وما يقاومها (الحياة الوجدانية، اللغات والثقافات التقليدية) بضراوة، أحياناً، يمكن أن يقال عنه أنه مجرد رواسب أو بقايا. ومع ذلك فإن ما كان إحدى الأبعاد الأساسية (إن لم يكن البعد الأساسي) للحداثة، وهو الدولة المجردة الممركزة، هو ربما في طور التخلخل. فالضغط الهيمني للدولة، والاستثمار البيروقراطي للحياة الاجتماعية، والفردية، تهيؤ، دون شك، لأزمات كبرى في هذا المجال.
ج- مفهوم سيكولوجي:
مقابل الاجماع السحري، والاجماع الديني، والاجماع الرمزي الذي يميز المجتمع التقليدي (العشيرة) ينطبع العصر الحديث بظهور الفرد، بمكانته ووعيه المستقل، بسيكولوجيته وأزماته الشخصية، بمصلحته الخاصة، بل بلا وعيه، وباستلابه المعاصر (من حيث أنه واقع أكثر فـأكثر في شبكة وسائل الاتصال الجماهيرية، والتنظيمات والمؤسسات) وبتجريديته، وبفقده لهويته في العمل والتسلية، وبغياب التواصل …الخ، وهي نقائص تحاول التعويض عنها منظومة من التشخيص عبر الموضوعات والرموز.
الحداثة والزمن:
إن الزمنية المعاصرة متميزة في مختلف مظاهرها.
المظهر الكرونومتري: الزمن القابل للقياس والذي نقيس به مختلف الأنشطة، وذاك الذي يقطع تقسيم العمل إلى أوقات ويقطع الحياة الاجتماعية، هذا الزمن المجرد الذي حل محل إيقاع الأعمال والاحتفالات، هو زمن الإكراه الإنتاجي. فالزمنية البيروقراطية تسود حتى الوقت الحر، وعلى وقت التسلية.
المظهر الخطي: الزمن المعاصر، ليس زمنا دائريا، بل هو زمن يتطور وينمو حسب خط الماضي-الحاضر-المستقبل، وفق مصدر وغاية يتوخاها. يبدو أن التقليدي متمركز على الماضي بينما الحداثة متمركزة على المستقبل، لكن الحداثة وحدها هي التي تعكس ماضيا في الوقت نفسه الذي تعكس مستقبلا، وفق جدلية خاصة بها.
المظهر التاريخي: لقد أصبح التاريخ، وخاصة منذ هيجل، هو الهيئة المهيمنة للحداثة. فهو في الوقت نفسه صيرورة واقعية للمجتمع، ومرجع متعال، يفسح المجال أمام الاكتمال النهائي. فالحداثة تفكر في ذاتها تفكيرا تاريخيا، لا تفكيرا أسطوريا.
إن الحداثة، من حيث هي كم قابل للقياس، وغير قابل للتراجع، وتعاقب آنات محدودة أو صيرورة جدلية، قد أفرزت -على أية حال- زمنية جديدة تماما، وهو بعد حاسم. وصورة لتناقضات الحداثة. فما يميز الحداثة، داخل هذا الزمن غير المحدود، والذي لا يعرف الاستمرار والدوام، هو شيء واحد: إنها تود أن تكون دوما “معاصرة”، أي تآنيا وجدانيا. فهي بعد أن أعطت الامتياز لبعد التقدم والمستقبل، يبدو أنها تختلط اليوم أكثر فأكثر مع ما هو راهن. ومباشر ويومي، وهو الوجه الآخر للديمومة التاريخية ليس إلا.
بلاغة الحداثة: تجديد وطليعة
تعبر الحداثة، في مجال الثقافة، والأخلاقيات -بنوع من التعارض الشكلي مع التمركز البيروقراطي والسياسي، لكن في علاقة وطيدة معه، وبنوع من إضفاء التجانس على أشكال الحياة الاجتماعية- تعبر عن نفسها بتمجيد الذاتية العميقة، والأهواء، والتفرد، والصدق الذاتي، وما هو عابر، وما لا يمكن إدراكه. كما نعبر عن نفسها بتحطيم القواعد وإبراز الشخصية الذاتية الواعية بنفسها أولا. و”رسام الحياة الحديثة”، لبودلير الواقع على الحدود بين الرومانسية والحداثة المعاصرة. يسجل انطلاق عملية البحث عن الجديد، وعن اشتقاق الذاتية، “وهكذا فهو يذهب، ويجري ويبحث. نعم. يبحث إذن؟ إن هذا الإنسان كما رسمت صورته، هذا المنعزل ذو الخيال النشيط، المسافر عبر صحراء كبرى من البشر، يبحث عن هذا الشيء الذي نستأذن في تسميته بالحداثة.
ستولد الحداثة في كل المستويات جمالية القطيعة، والإبداع الفردي والتجديد الموسوم بظاهرة الطليعة كظاهرة سوسيولوجية (وهذه الطليعة ترتبط بميدان الثقافة وكذا بميدان الموضة). وبالتحطيم المستمر للأشكال التقليدية (الأجناس في الأدب، وقواعد الهارمونيا في الموسيقى، وقوانين المنظور والتشكيل في الرسم وللروح الأكاديمية، وبصفة عامة سلطة ومشروعية النماذج السابقة في ميدان الموضة، والجنس والسلوكات الاجتماعية).
وسائل الاتصال الجماهيري:
الموضة والثقافة الجماهيرية
وقد ازدهر هذا الميل الأساسي وتقوى منذ بداية القرن العشرين بواسطة انتشار صناعة الأدوات الثقافية، وانتشار نوع من الثقافة الجماهيرية، والتدخل الهائل لوسائل الاتصال الجماهيري (الصحافة، السينما، الراديو، التلفزيون، الإشهار) كما تزايد الطابع العابر والعرضي للمضامين والأشكال. فالثورات في الأسلوب والموضة والكتابة والعادات لا تحصى. وبتجدرها أكثر فأكثر في تغير المنظور، وفي تحول بصري مستمر، تغير الحداثة معناها. فهي تفقد شيئا فشيئا كل قيمة جوهرية، وكل إيديولوجيا أخلاقية وفلسفية في التقدم. هذه الإيديولوجيا التي كانت هي أساس الحداثة في البداية، لتصبح مجرد جمالية للتغير من أجل التغير. فهي تلخص ذاتها، وتتبلور في بلاغة جديدة، كما تعبر عن نفسها في لعبة منظومة أو عدة منظومات من الرموز. وفي النهاية فإنها تلتحق بالموضة التي هي في الوقت نفسه نهاية الحداثة.
إذ أنها تدخل في إطار تغير دوري، حتى تنبعث من جديد كل أشكال الماضي (العتيقة، الفولكلورية، الخشنة، التقليدية) مفرغة من جوهرها، لكنها تمجَّد كعلامات ضمن مجموعة قواعد، حيث يتعادل التراث والتجديد، القديم والحديث، ويؤثران بالتناوب. وهكذا لم تعد الحداثة تمثل قطيعة فهي تغتذي من بقيا وفتات كل الثقافات، في الوقت نفسه تغتذي فيه بفضلاتها التقنية، أو بغموض كل القيم.
التقليد والحداثة في مجتمعات العالم الثالث
تتجلى السمات المميزة للحداثة، وفواعلها، وإشكاليتها، وتناقضاتها، بمنتهى القوة، في المجتمعات التي يكون فيها تأثيرها التاريخي والسياسي صادما: أي في المجتمعات القبلية، أو المستعمرة سابقا والتقليدية. يعتبر D. Apter الاستعمار “قوة تحديثية”، أي “نمطا يكسب بواسطته التحديث طابعا شموليا”.
وقد تم تفكيك منظومات التبادل القديمة بظهور النقد واقتصاد السوق. فالمنظمات السلطوية التقليدية، تمحي تحت ضغط الإرادات الاستعمارية، أو البيروقراطيات الأهلية الجديدة.
وبسبب غياب ثورة سياسية أو صناعية في العمق، فإن المظاهر التقنية، والأكثر قابلية للنقل، هي التي تمس أكثر المجتمعات التي هي في حالة نمو: مواد الإنتاج، والاستهلاك الصناعي، ووسائل الاتصال الجماهيري. والحداثة تستثمر هذه الموضوعات قبل كل شيء في ماديتها التقنية كمشهد، وليس من خلال عملية العقلنة الاقتصادية والسياسية الطويلة المدى التي نتجت عنها في الغرب.
ومع ذلك فإن لشظايا الحداثة هاته صدى سياسيا: فهي تسهم في تفكيك نمط العيش، وتسارع بالمطالبة الاجتماعية في التغيير.
مقاومة وخليط
إذا كانت الحداثة قد بدت في مرحلة أولى كقطيعة، فإن التحليل الدقيق الذي قامت به الأنتروبولوجيا السياسية، منذ الحرب العالمية الثانية (بالاندييه، ليش، أبتر، التهاب) يظهر أن الأشياء أكثر تعقيدا مما يبدو. فالنظام التقليدي (القبلي، العشائري، القرابي) يظهر مقاومة عنيفة تجاه التغير، بينما تقيم البنيات الحديثة (الإدارية، الأخلاقية، الدينية) مع التقاليد والثرات تسويات حلول وسطى (Compromis ). فالحداثة تتخذ فيه دوما صورة انبعاث للتراث. دون أن تتخذ هذه، مع ذلك معنى محافظا (…).
وهذا شيء مهم: يظهر ميدان الأنتروبولوجيا، أكثر مما يظهر ذلك التاريخ الأوروبي، حقيقة الحداثة، أي كونها ليست أبدا تغيرا جذريا أو ثورة، بل إنها تدخل في علاقة ضمنية مع التراث في إطار لعبة ثقافية رفيعة، وفي حوار يترابط فيه العنصران، ضمن عملية تداخل واختلاط وتكيف. وهكذا تتخلى جدلية القطيعة عن مكانها لدينامية التمازج والتفاعل.
الإيديولوجيات والحداثة: الإيديولوجيات كعلامة على الحداثة
يظهر لنا تحليل المجتمعات التي تحررت من الاستعمار تعبيرا نوعيا آخر عن الحداثة: وهي الإيديولوجيا. فالإيديولوجيات (الوطنية، الثقافية، السياسية) معاصرة لعملية تفكك البنيات القبلية ولعملية التحديث. فهذه الإيديولوجيات، من حيث أنها مستجلبة من الغرب، ومطبوعة بطقوس ومعتقدات تقليدية، تكتسب أهمية أقوى من أهمية البنية الاقتصادية التحتية، وهي محل التغير والصراع وانقلاب القيم والذهنيات. ويتعلق الأمر هنا بالأحرى ببلاغة الحداثة، التي تحدث غموض تام في مجتمعات يكون من مهمتها فيها التعويض عن التأخر الواقعي، وعن عدم التطور.
لقد مثل هذه الملاحظات يمكن أن تساعد على تحديد مفارقة الحداثة. فهي تفكك للبنيات وتغير، لكن أيضا التباس وحلول وسطية وتمازجات: الحداثة عبارة عن مفارقة، فهي ليست جدلية. إذا كانت الحداثة نموذجا لمفهوم “حديث” وإذا كانت الإيديولوجيات هي التعبير عن الحداثة، فإن الحداثة ذاتها، دون شك، ليست إلا عملية إيديولوجية واسعة.
إيديولوجيا الحداثة: نزعة محافظة بوساطة التغيير
بهذه الصورة تظهر الحداثة، سواء في الغرب أو العالم الثالث، على أنها محل انبثاق عوامل القطيعة والحلول الوسطى بجانب عوامل النظام وارتساء التقليد. فالحركية الملازمة لها على كل المستويات (الاجتماعية، والمهنية، والجغرافية والزواجية وفي الموضة والتحرر الجنسي) لا تطال فقط سوى جانب التغير المسموح به من طرف النظام، دون أن يتغير النظام كليا. يقول “بالاندييه” عن دول إفريقيا السوداء: “إن المواجهات السياسية تعبر عن نفسها تعبيرا واسعا -لكن ليس فقط- بالنقاش الدائر بين ما هو تقليدي وما هو حديث: وهذا الأخير يبدو خصوصا وكأنه أداة، وليس السبب الرئيسي لهذه الصراعات”. وهكذا فإن الحداثة في المجتمعات المتطورة ليست هي التي تعيد رسم وتحديد البنية، ولا التاريخ الاجتماعي: بل هي بالأحرى (في تفاعلها مع الواقع التقليدي) المجال الذي ينبثقان فيه ليتخذا طابعا مقنعا. وهي المجال الذي تذوب فيه جدلية المعنى الاجتماعي في القواعد البلاغية والأسطورية للحداثة.
التباس مكشوف
إن التغييرات التي حدثت في البنيات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية والنفسية هي العوامل التاريخية الموضوعية للحداثة، لكنها في حد ذاتها لا تشكل الحداثة. بل إن هذه ستعرِّف نفسها بالأحرى على أنها إنكار لهذه الغييرات البنيوية، أو على الأقل على أنها إعادة تأويل لها بأسلوب الذهنية السائدة، ونمط الحياة، والمعيش اليومي.
ليست الحداثة هي الثورة التكنولوجية والعلمية، بل هي مجال اندراج هاته في مشهد الحياة الخاصة والاجتماعية، وفي مجال ما هو يومي كما تحدده وسائل الإعلام، وفي نماذج الحياة الاستهلاكية والطمأنينة البيئية أو غزو الفضاء. ليس العلم ولا التقنية ذاتهما “حديثين”. بل إن مفعول تأثير العلم والتقنية هما اللذان يكتسبان هذه الصفة. أما الحداثة، فهي، رغم تأسيسها على الظهور التاريخي للعلم، فإنها لا تحيا إلا على مستوى أسطورة العلم.
ليست الحداثة هي العقلنة، ولا الاستقلال الذاتي للوعي الفردي، الذي هو مع ذلك أساسها. إنها بعد فترة الظهور الاحتفالي للحريات وللحقوق الفردية، التمجيد الناتج عن ردة فعل ثانية مهددة كليا بالمجانسة التي تتهدد الحياة الاجتماعية كلها، إنها إعادة تدريب هذه الذاتية المفقودة في منظومة من “التشخيصات”، في مفاعيل الموضة والتطلع الموجه.
ليست الحداثة هي جدلية التاريخ: بل إنها هي الحدثية واللعبة الدائمة لما هو راهن وكونية الأحداث المتنوعة بواسطة وسائل الاتصال الجماهيرية.
ليست الحداثة هي امتساخ كل القيم، بل إنها التفكك العام لكل القيم القديمة دون تجاوزها، إنها التباس كل القيم والاختلاط المعمم. لن يعود هناك لا خير ولا شر، لكننا مع ذلك لم نعد “خارج الخير والشر”.
ليست الحداثة هي الثورة، رغم أنها ترتبط بثورات صناعية وسياسية وإعلامية، والثورة في وسائل العيش الرغيد…إلخ.
وكما يقول هنري لوفيفر في كتابه “مدخل إلى الحداثة”: “داخل هذا العالم المقلوب. وغير الواقف على رجليه، تنجز الحداثة مهام الثورة: تجاوز الفن والأخلاق والإيديولوجيات… ويمكن أن نضيف إلى ذلك الحركية، والوفر، وأشكال التحرر المختلفة. لكنها تنجزها على شكل ثورة دائمة في الأشكال، أي في لعبة التغير، وفي النهاية في دائرة تنغلق فيها من جديد الثغرة المفتوحة في عالم التقاليد.
ثقافة اليومي:
كانت التقاليد تعيش على الاستمرار والتعالي الحقيقي، أما الحداثة فبإحداثها للقطيعة، وعدم الاستمرار، قد أعادت إغلاق نفسها في دائرة جديدة. فهي قد فقدت تلك الشحنة الإيديولوجية الدافعة، المرتبطة بالعقل والتقدم، وأخذت تختلط شيئا فشيئا باللغة الشكلية للتغير. بل حتى أساطيرها أخذت تفلت منها وتفر: فقد أخذت الحداثة تتميز تدريجيا بالتعالي المجرد لكل السلط. فالحرية فيها شكلية، والشعب يصبح جمهورا، والثقافة تغدو موضة. وبعد أن كانت الحداثة هي دينامية التقدم أصبحت بالتدريج، وببطء، حركية العيش الرغيد.
وأسطورتها تعني التجرد المتعاظم للحياة السياسية، والاجتماعية، التي تختزل الحداثة في إطارها -شيئا فشيئا- لتصبح مجرد ثقافة لما هو يومي.
نص مقتطف عن “الموسوعة الشمولية” Encyclopedia Universalis
الكرمل العدد 36-37 (1990)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق