* |
مقدمة[1]
لقد تسببت التكنولوجيات الرقمية في نشوء
مجموعة جديدة من ممارسات التواصل بين الناس، وطرق جديدة لإدارة العلاقات
الاجتماعية، وسبل إنجاز الأمور، طرق لها أن تتحدى منهجنا في التفكير، وفي الحب،
والصداقة، والعمل، واللعب، والصحة واللياقة، والتعليم والأدب، والسياسة والمواطنة.
وتمثل هذه الممارسات الجديدة أيضا تحديا أمام مناهج محللي الخطاب عند التفكير في
النصوص، والنظر في التفاعلات الاجتماعية،
بل وفي طبيعة اللغة ذاتها. ودليل ذلك أن
إمكانيات الإعلام الرقمي في إنتاج نصوص متعددة الوسائط، تجعلنا نتشكك في نماذج
التحليل التي تركز فقط على اللغة المكتوبة أو المنطوقة. إذ يتوفر داخل فضاءات الكتابة
التفاعلية، مثل المدونات ومواقع الشبكات الاجتماعية، صور متباينة من التفاعل
الاجتماعي غير ما نجده في الحوار وجها لوجه، وما نراه في النصوص المكتوبة
التقليدية. كذلك تجعلنا ممارسات كالتعديل و”التوليف” نتشكك في وضعية المؤلف. بل
ولابد من تكييف أدوات التحليل التي تهدف لدراسة الأبعاد الأيديولوجية للخطاب بحيث
تعالج البيئات الخطابية التي تنتشر فيها مواضع السلطة انتشارا وتمتلئ بأدوات رقابة
وانضباط إيديولوجي أكثر مراوغة وتعقيدا.
ومع أن هناك محاولات عديدة في تحليل الخطاب،
وفي اللغويات الاجتماعية ذات المدى الأوسع، سعت لوضع أطر تحليلية جديدة لدراسة
الاتصالات الرقمية، إلا أن مجموعة الممارسات الاجتماعية المرتبطة بالخطاب الرقمي،
والوتيرة السريعة التي يجري بها إدخال التكنولوجيات الجديدة، مسألتان تجعلان من
الصعوبة بمكان الاعتماد على إطار تحليل واحد لفهم كافة العلاقات المعقدة التي تربط
بين الخطاب والممارسات الرقمية. ولكي يتسنى لمحللي الخطاب أن يتعاملوا مع مشهد
الإعلام الرقمي سريع التغير، فهم في حاجة للاستفادة من النظريات والمناهج المتعددة
التي نشأت وتطورت على مر السنين لتحليل الخطاب “التناظري”، وأن يقوموا بصياغة
مفاهيم ومنهجيات جديدة للتعامل مع التشكيلة الفريدة من الإمكانيات والقيود التي
وضعها الإعلام الرقمي قبالتنا.
يجمع هذا الكتاب بين دفتيه أربعة عشر عالما
بارزا في علم اللغة والدراسات الأدبية للنظر في كيفية استخدام أدوات تحليل الخطاب
لفهم الممارسات المختلفة التي ينخرط فيها الناس عند استخدامهم للإعلام الرقمي.
إن الأساليب التي يعتمد عليها في التحليل
تمثل مجموعة من مقاربات الخطاب، بداية من التحليلات التقليدية للتجانس النصي
والممارسات التفاعلية حتى المقاربات الأحدث مثل تحليل الخطاب المعتمد على المتن،
وتحليل خطاب وسيط واحد، وتحليل الخطاب متعدد الوسائط. ويركز كل فصل على ممارسة
اجتماعية معينة مرتبطة بالتكنولوجيا الرقمية، ويبين كيف يمكن لاستخدام أدوات
مقاربة ما من مقاربات الخطاب، أو مزيج من المقاربات، أن يساعدنا في فهم هذه
الممارسة.
ما الممارسات الرقمية؟
يدور الكتاب الحالي حول الممارسات الرقمية
تماشيا مع المقاربات الحديثة في اللغويات التطبيقية، والدراسات الأدبية، وتحليل
الخطاب، التي تنطلق لا من الخطاب في حد ذاته، بل من الممارسات الاجتماعية التي
يستخدم فيها الناس الخطاب للقيام بها.
ولعل توجه المشاركين في الكتاب نحو دراسة
الممارسات الاجتماعية توجه له جذوره في عدد من التقاليد الفكرية، بما في ذلك علم
الاجتماع النقدي عند بورديو (1977)، الذي يرى الممارسة كالأعراف الاجتماعية في
انغماسها في استعدادات الناس المعتادة، والنقد الثقافي لفوكو (1972) وأتباعه،
الذين يرون الممارسة في ضوء أنظمة المعرفة التي تحدد أنواع السلوكيات، والهويات
والعلاقات الطبيعية. ولكن هذا التوجه يرفده فهم التطبيقات الواردة في الدراسات
الأدبية الجديدة، وتطبيقات تحليل خطاب وسيط واحد، التي لا تعتبر الممارسة مجرد
استعدادات أو أنظمة معرفة بل تتعامل معها كأفعال ملموسة يقوم بها الناس مستعينين
بوسائل معينة (مثل النصوص المكتوبة، والحواسب، والهواتف المحمولة) من أجل تفعيل
العضوية في جماعة اجتماعية بعينها. وفي هذه المقاربات يستخدم مصطلح ممارسة دائما
كاسم معدود (“الممارسات”) ويشير إلى “ما يلحظ ويمكن جمعه أو توثيقه . . . من
أحداث، وبشر فعليين مشاركين فيها، وعلاقات، وأهداف، وأفعال، وأماكن، وأوقات،
وظروف، ومشاعر، وأدوات، وموارد “. فمن الصعوبة بمكان، من هذا المنظور، الحديث عن
“ممارسة” التشبيك الاجتماعي أو “ممارسة” “لعب ألعاب الفيديو” دون النظر في طرق
تنفيذ هذه الممارسات من قبل أفراد حقيقيين في مواقف فعلية. وفي الواقع، كما توضح
لنا عديد من فصول الكتاب الحالي، تختلف معاني ودلالات الممارسات (مثل ممارسة “وضع
الوسوم”) اختلافا، كما تختلف أغراضها الاجتماعية، وأفعالها وسياقاتها (كما نجد في
سياق موقع تويتر مقابل موقع فليكر). وبهذا يصعب غالبا الوقوف على “ماهيتها”، فهي
دائمة التغير لتلبية احتياجات الظروف الجديدة أو للاستجابة للفرص والقيود التي
تفرضها الأدوات الثقافية الجديدة. ولعل ما يعقد الأمر أن الممارسات ليست منفصلة عن
بعضها، بل هي دوما مختلطة بطرق معقدة مع غيرها. فممارسات من قبيل…
شراء حيوانات لتزيين حديقة في موقع لتعليم
اللغة في بوسو التي وصفها تشيك، وتتبع السعرات الحرارية لشخص في موقع MyFitnessPal التي وصفها جونز، والقراءة للأطفال بالاستعانة
بالآيباد التي وصفها ميرشانت، أو حضور حفلات على الانترنت التي تقيمها فرق إنتاج
الموسيقى المصورة التي وصفها مارش، هي جميعها ممارسات متداخلة متعددة مثل التسوق
وزيارة الحدائق العامة، وإتباع نظام غذائي، وقراءة قصة والتنشئة، ولها تاريخ طويل
مستقل عن الممارسات الرقمية التي استفيد منها فيها. فالممارسات الرقمية دائما ما
“تقع” أو “تتداخل” مع الممارسات الثقافية الأخرى، القديم منها والجديد، لتشكيل ما
يسميه سكولون بـ”لب الممارسة، أي تشكيلة الأدوات والأفعال ذات الأعراف والسير
التاريخية المرتبطة بها، التي تشكل معا سلسلة معروفة من الأفعال وتجعل للفاعلين
هويات اجتماعية معروفة.
إن ما نعنيه بـ”الممارسات الرقمية”، إذن، هي
هذه “التشكيلة” من الأفعال التي لها أدوات مرتبطة بالتكنولوجيا الرقمية، وأصبحت
معروفة بين جماعات مخصوصة من الناس كوسيلة تعينهم في تلبية غايات اجتماعية بذاتها،
وبناء هويات اجتماعية بعينها، وإنشاء علاقات اجتماعية محددة. والافتراض الكامن من
وراء هذا المعنى للممارسات الرقمية هو أن التكنولوجيا الرقمية، بفضل ما توفره
للناس من وسائط ومواد مختلف ألوانها، تتيح أنماطا جديدة من الممارسات الاجتماعية،
وتغير طريقة مشاركة الناس في الممارسات القديمة. وتشمل الممارسات التي يتناولها
المجلد الحالي الوسوم الموضوعة على الصور من قبل مستخدمي فليكر، واستخدام تطبيقات
الآي فون، وتأليف المشاركين في العالم الإفتراضي لموسيقى مصورة عبر الإنترنت. ومع
ذلك لا يقتصر تعريفنا لـ”أدوات التكنولوجيا الرقمية”، على البرامج أو مواقع الويب،
ولكنها تشمل على الأجهزة (الأشياء المادية) والأدوات السيميائية مثل الطرق
التقليدية في القول أو الكتابة التي نشأت داخل الإعلام الرقمي. ولذلك، لا تقتصر
الممارسات موضوع الكتاب على تلك الممارسات التي تحدث عبر “الانترنت” أو داخل حدود
الشاشة، ولكنها تشمل أيضا الممارسات التي نشأت مع استخدام أجهزة مثل الآي فون والآي
باد، بل وممارسات الترميز التي تمثل الأبعاد اللغوية المناسبة للتواصل عبر الحاسب
الآلي. ففي الواقع، ليست الممارسات الموصوفة في الكتاب الحالي مقتصرة على فضاءات
داخل الانترنت أو خارجه. فالممارسات الرقمية دائما ما تخترق الحدود القائمة ما بين
الأنظمة الحقيقية والافتراضية، بين النظم التكنولوجية والنظم الاجتماعية.
ما تحليل الخطاب؟
إذن، ما الذي نعنيه “بتحليل الخطاب”، وما
فائدته في مساعدتنا في فهم الممارسات الرقمية؟ إن “الخطاب” هو مصطلح يستخدم في
مجموعة متنوعة من الحقول المعرفية المختلفة، ويمكن أن يدل على كثير من الدلالات
المتباينة. إذ يمكن أن يعني الخصائص الشكلية للمنتجات السيموطيقية التي تجعلها
“تتضام معا” كأنماط معينة من “النصوص”، كما يمكن أن يدل على طرق الناس في استخدام
اللغة والأنظمة السيميائية لإنجاز أفعال اجتماعية بعينها…
أو أن يدل على نظم المعرفة العامة التي تنظم
ما يقوله الناس ويكتبونه أو يفكرون فيه. وتحقيقا لأهداف المجلد الحالي، سوف نعرف
الخطاب تعريفا عاما باعتباره طرق الناس في إنشاء وإدارة حياتهم الاجتماعية
باستخدام مختلف الأنظمة السيميائية. هذا التعريف، بالطبع، يضع الخطاب في علاقة
لصيقة مع الممارسات الاجتماعية. فمن ناحية، تنتقل الممارسات الاجتماعية نوعا ما من
خلال الخطاب – أي أن الخطاب يستخدم كأداة لإنجاز الممارسات الاجتماعية. ومن ناحية
أخرى، يلعب الخطاب دورا هاما في الحفاظ على الممارسات الاجتماعية وإعادة إنتاجها
ونقلها. ومن ثم يكون “تحليل الخطاب” في تعريفنا هو دراسة طرق تأثير مختلف “تقنيات
صناعة النصوص” (بما في ذلك أنظمة سيميائية مثل اللغات، وكذلك وسائل الإعلام مثل
التلفزيون وأجهزة الكمبيوتر) على المعاني التي يصنعها الناس في مواقف مختلفة، وعلى
كافة الأفعال التي يقومون بها، وعلى أنواع العلاقات التي ينشئونها، وعلى الهويات
التي يصبحون عليها. ولكي يستطيع محلل الخطاب أن يجري هذا النوع من الدراسات، فعليه
أن يلتفت عادة إلى أربعة أمور:
النصوص: كيف تعيننا تقنيات صناعة النصوص المختلفة في التوليف بين العناصر
السيميائية لتشكيل نصوص معترف بها اجتماعيا ويمكن استخدامها للقيام بأنواع مختلفة
من الأفعال المعترف بها اجتماعيا.
السياقات: وهي الأوضاع الاجتماعية والمادية التي تؤلف في إطارها النصوص وتستهلك،
ويتم تبادلها وتمتلك.
الأفعال والتفاعلات: ما يفعله الناس مع النصوص، وخاصة ما يقومون مع بعضهم البعض.
السلطة والايدولوجيا: كيف يستخدم الناس النصوص للهيمنة والسيطرة على الآخرين وصياغة رؤية بعينها
للواقع .
وبطبيعة الحال تركز مختلف مقاربات الخطاب على
هذه الأبعاد بدرجات مختلفة، ولكنها كلها، بطريقة أو بأخرى، تأخذها بعين الاعتبار،
وتسعي لفهم طريقة عملها معا:أي كيف، مثلا،
يؤثر السياق على شكل النص ومعناه، وكيف تشكل النصوص مختلفة الأشكال أفعالا
وتفاعلات متباينة الأنماط، وكيف يعكس استخدام الناس للنصوص في الفعل والتفاعل داخل
سياقات محددة الأيديولوجيات وعلاقات القوة، ويسهم في إعادة إنتاجها. وبعبارة أخرى،
تسعى كل مقاربات الخطاب لفهم العلاقة بين المستوى “الجزئي” للخطاب الذي يتصل
بطريقة تضافر النصوص واستخدامها في ممارسة أفعال بعينها في حالات محددة، والمستوى
“الكلي” للخطاب الذي يتصل بالطريقة التي تعكس بها النصوص نظما اجتماعية بعينها
وتساعد في تكريسها.
وكما ذكرنا سلفا، تمثل التشكيلة المتنوعة من الطرق
والمواد التي يتيحها الإعلام الرقمي تحديا كبيرا أمام المحلل فيما ينتهجه من
منهجية في معالجة الجوانب الأربعة للخطاب. ففي بعض الحالات، يمكن تكييف الأدوات
المستخدمة في دراسة المحاورات وجها لوجه والكتابة في وسائل الإعلام المطبوعة
بسهولة لتحليل المحادثات والنصوص المنشورة على الانترنت.
وفي حالات أخرى، لابد من إنشاء مفاهيم
وأساليب جديدة. ومع ذلك، فالقضية الحقيقية تتجاوز مجرد قابلية أدوات تحليل بعينها
للتطبيق على الاتصالات الرقمية إلى حقيقة أن الإعلام الرقمي يجبرنا على إعادة
التفكير في تعريفاتنا لمصطلحات مثل النص والسياق، والتفاعل، والسلطة .
النصوص
لا نعني بالنصوص، بطبيعة الحال، النصوص
المكتوبة بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنها تشمل المحادثات – المكتوبة والمحكية –
والفيديوهات، والصور، والرسومات واللوحات ولافتات الشوارع، والمواقع الإلكترونية،
وواجهات البرمجيات، وألعاب الفيديو، وغيرها من العناصر السيميائية التي يمكن أن
يتخذها الناس كأداة في القيام بفعل اجتماعي. وعلى الرغم من اتساع نطاق هذا
التعريف، لدي محللي الخطاب بعض الآراء القوية حول ما يشكل النص وما لا يشكله.
فالغالبية منهم يتفقون على أن اعتبار مجموعة من العناصر السيميائية (الكلمات
والجمل والصور والأصوات، وغيرها) نصا، مسألة تتطلب أن تمتلك هذه العناصر ما يعرف
بالـ”نسيج”. والنسيج النصي هو الترابط الذي ينشأ عبر مبدأ التجانس، أي طريقة تضام
أجزاء مختلفة من النص معا باستخدام الموارد النحوية والدلالية في نظام سيميائي
مستخدم، وعبر مبدأ التماسك، أي طريقة ترتيب أجزاء مختلفة من النص بالتتابع بحيث
يمكن للقراء التعرف على منطقه ومعناه.
وعلى الرغم من أن نصوصا من قبيل ألعاب
الفيديو، ومواقع التشبيك الاجتماعي، وتطبيقات الآيفون مختلفة كل الاختلاف عن
النصوص المكتوبة ومحادثات الوجه للوجه، إلا أنها تتميز أيضا بأن لها نسيج. وهذه
نقطة من النقاط الرئيسية التي يضعها جي Geeفي الفصل
التالي للمقدمة الحالية، ويمكن تطبيقها في تحليل الخطاب، فالتشكيلة السيميائية يجب
أن تمتلك، برأيه، خواصا يسميها بـ “التعبئة” و”التدفق” – مبدأ التوليف بين العناصر
المختلفة باستخدام مبادئ علم النحو وعلم الدلالة، ومبدأ ترتيب هذه العناصر في
نموذج مؤقت بزمن. ويوضح ذلك بتحليل كيف تتضافر العناصر المختلفة في لعبة فيديو مع
بعضها البعض وتترابط في تسلسل دال. والنقطة الأخرى الهامة التي يصوغها هي أن
النسيج موجود أمام اللاعبين لاستخدامه. فليس النسيج مجرد معنى مجرد أو شكل. فطريقة
تعامل اللاعبين مع الألعاب (وطريقة الناس في التعامل مع النصوص المكتوبة
والمحادثات) محكومة بكيفية استخدامهم لمبدأي التوليف والترتيب للقيام بأفعال
بعينها. وهكذا، يكون علما النحو والدلالة عند محللي الخطاب، يدوران حول القواعد
والبنى – فهي توفر الموارد النصية الأساسية التي يستخدمها الناس في الممارسات
الاجتماعية.
وبطبيعة الحال تختلف طريقة تجلى النسيج في
مختلف أنماط النصوص. مثلا يميز هاليداي وحسن (1976) بين النصوص التي لديها نسيج
“ضيق”، أي أن معظم الروابط التي تربط أجزاءها واضحة للعيان، وتلك التي لديها نسيج
فضفاض، أي …
أن الروابط التي تربط بين أجزاءها أقل وضوحا،
وتعتمد أكثر على الجهود الفعالة للقراء في ربطها معا. ولقد ركزت الكثير من أعمال
تحليل الخطاب باكرا في دراسة الاتصالات الحاسوبية على النسيج الفضفاض نسبيا للنصوص
الحاسوبية. ومثال ذلك ما قامت به هيرينج من مناقشة في مقالها الكلاسيكي حول
الاتساق في نص الدردشة (1999) بشأن كيف لظواهر مثل التجاور الممزق والتبادل
المتداخل وانقضاء الموضوع أن تجعل لبعض أشكال الاتصال الحاسوبية نسيجا أكثر مرونة
بكثير من نسيج المحادثات وجها لوجه أو نسيج النصوص المكتوبة، لكنها جادلت أيضا بأن
التنافر الواضح يمكن أن ييسر في الواقع زيادة التفاعل والإبداع. ويضيف بارتون فكرة
مماثلة بالفصل الذي يتحدث فيه عن ممارسات التوسيم في موقع فليكر: فعلى الرغم من
أنها قد تبدو للوهلة الأولى مجموعة فضفاضة من الكلمات، إلا أن قوائم العلامات
المرتبطة بالصور تستغل أحيانا خصائص النحو والدلالة بطرق أتاحت للمستخدمين تحويل
شكل خطابي يراد تصنيفه تصنيفا بسيطا إلى أداة للاتصال والقص. وهناك نوع مماثل من
النسيج الفضفاض يميز تعليقات اليوتيوب التي حللها بنسون، ولكنها، كما يبين بشكل
مقنع، يمكن الكشف عن التماسك الأساسي بين التعليقات بالانتباه إلى “تتابع
الدلالات”.
وبينما تعتبر عديد من النصوص الرقمية نصوصا
فضفاضة النسيج، إلا أن كثيرا منها محكمة النسيج، مما لا يتيح للمستخدمين خيارا سوى
ربط عناصر النص بعضها ببعض أو ترتيبها متسلسلة. ولعل عديد من خيارات “التعبئة”
و”الدفق” في الخطاب الحاسوبي، هي في الواقع، كما يشير جونز في فصله، ليست من صنع
الناس، بل عبر برامج الكمبيوتر. وأحيانا ما يسهم النسيج المفروض على الخطاب
حاسوبيا في رفع قدرات المستخدمين في تنفيذ أفعال معينة، وتكوين علاقات بعينها،
وبناء بعض الهويات، ولكن في الوقت نفسه، فإن هذه الأنسجة المفروضة حاسوبيا يمكن أن
تفرض قيودا على قدرة الناس على الفعل، والتفاعل مع الآخرين، أو في اختيارهم للهوية
التي يريدونها. علاوة على ذك، قد يتسبب النسيج المفروض على الخطاب حاسوبيا في صنع
البلبلة أحيانا فيما يتعلق بكيفية قراءة المستخدمين للنصوص. ولعل واحدة من النقاط
الأكثر إثارة للاهتمام التي قدمها بينسون في تناوله لتعليقات اليوتيوب، على سبيل
المثال، هو أنه رغم الحقيقة التي تقول بأن التعليقات تنتج عبر تسلسل الدلالات،
تظهر تعليمات موقع اليوتيوب (افتراضيا) في ترتيب تنازلي استنادا إلى عدد
“اللايكات” التي نالتها، بما يفرض نسيجا شديد الاختلاف عليها.
وواحدة أخرى من الخواص الهامة للنصوص التي
يهتم بها محللو الخطاب هي طريقة ارتباط النصوص مع غيرها. وبطبيعة الحال، يعتبر
التناص والتداخل الخطابي من خصائص كل النصوص. ولعل الإعلام الرقمية، مع ذلك، بفضل
الإمكانيات التكنولوجية للربط بين النصوص التشعبية، والتضمين، والنسخ واللصق،
والتوليف والتجميع، يتيسر فيه ربط النصوص بغيرها، والخلط والمزج بينها معا. ولعل
الطبيعة التناصية والمتغايرة لنصوص الإعلام الجديد لا تغير فقط ممارسات القراءة …
والكتابة، ولكنها تؤثر أيضا في إرباك
المفاهيم المستقرة بشأن الحدود النصية والتأليف. وعند التأمل في هذه الأشكال
الجديدة من الربط والخلط التي تيسرت بفضل الإعلام الجديد، من الميسر أحيانا تجاهل
الوسائل التقليدية التي يتبعها الناس في صنع التناص في النصوص الرقمية باستخدام
الموارد اللغوية البحتة. وفي الفصل الوحيد في الكتاب الحالي الذي يركز حصرا على
التناص، يشرح فاسكيز بعض أكثر الطرق “منخفضة التقنية” استخداما بين المشاركين في
الممارسة الرقمية لاستخدام المراجعة على الانترنت لإقامة روابط مع نصوص أخرى
والمزج الخلاق لأعراف الأنواع المختلفة. ولعل أهم نقطة صاغها فاسكيز حول التناص،
وهي النقطة الأكثر انطباقا على الأمثلة التي أوردها مارش وسنايدر، من أن التناص هو
أساسا عملية اجتماعية يقوم من خلالها الناس بالربط بين النصوص، بل وإقامة علاقات
مع غيرهم من مستخدمي النصوص، بما يجعلهم أعضاء مختصة في مجتمعات معينة باستخدام
أعراف التناص في تلك المجتمعات.
والخاصية الثالثة للنصوص الرقمية التي لفتت
اهتمام المساهمين في المجلد الحالي هي طابعها الحواري. فالنصوص الرقمية مثل غيرها
من النصوص تتسم بقدرتها على التداخل مع غيرها، بل وهي أيضا حوارية نوعا ما، فهي
تستجيب للنصوص السابقة، وتهيئ الظروف للنصوص اللاحقة. والفارق الذي يميزها أن
حواريتها أكثر ديناميكية بكثير مما هو عليه حال في النصوص المكتوبة. فأصبحت
القراءة والكتابة مثل إجراء محادثة مع قراء لديهم قدرة على “الكتابة مرة أخرى”
للكاتب، والكاتب يصوغ نصوصه تحسبا لاستجابة فورية من القراء ومع ذلك لا تنطوي قدرة
النصوص الرقمية على الاستجابة فقط على التفاعل بين الكتاب والقراء، ولكنها تشمل
أيضا التفاعل بين المستخدمين البشر وتعليمات الجهاز التي تغير النصوص بحسب طرق
استخدام البشر لها أو بحسب خصائص المستخدمين مثل الموقع أو إعدادات المستخدم
المحددة مسبقا. هذا ما يعنيه جونز عندما يوضح لنا مرارا قدرة النصوص على قراءتنا
وكتابتنا كبشر لهم خصوصيتهم. هذا، بالطبع، له آثار هامة على قضايا مثل فعالية
الإنسان، ووضع النصوص كموضوعات مشتركة اجتماعيا. وهو ما يدعو إلى التساؤل فيما
تعنيه عملية قراءة نص وكتابته عندما امتلكت الميديا القدرة على قراءة النصوص دون
عوننا وأن تتخذ القرارات نيابة عنا، وعندما تصبح أفعالا ملموسة مثل الأكل في مطعم،
والتسوق أو التريض أعمالا تمارس تلقائيا بالكتابة.
وأخيرا، لعل من أهم الخصائص الواضحة في
النصوص الرقمية التي تمثل تحديا أمام محللي الخطاب هي حقيقة أنها دائما تقريبا
متعددة الوسائط، حيث تتألف من مجموعة غنية من الوسائط السيميائية مثل الكتابة،
والصور والصوت. ولهذا عواقب على طريقة مقاربة محللي الخطاب لقضايا مثل التماسك
والتجانس، التناص والحوارية، لأن إمكانيات ومعوقات الوسائط المختلفة تؤثر على
كيفية تكاملها، وطريقة ارتباطها مع غيرها، ومنهج القراء…
في التفاعل مع النصوص. والشيء الأهم بشأن
تعدد الوسائط هو أنه بفضل الديناميكية الكامنة في النصوص الرقمية، نادرا ما تجلت
المعاني مستقرة في تكوينات الوسائط، بل نجدها ترتحل عبر الوسائط وعبر مجموعات من
الوسائط بطرق تغيرها، أحيانا بمهارة، وأحيانا بشكل جذري، وهي العملية التي يسميها
جونز بإعادة الترميز. وعبر عمليات إعادة الترميز، تتحول أفعال مثل المشي أو شرب
المياه إلى رسوم بيانية وصور، وتتحول الصور على موقع فليكر لقوائم من الوسوم التي
تتجمع لتتشكل في صورة حكايات، وتصبح الفيديوهات على موقع يوتيوب حركات مبدئية في حوارات
مكتوبة.
ويرتبط بتعدد الوسائط التغير المدهش الذي
تجريه التقنيات الرقمية على كيفية تواصلنا مع النصوص كأشياء مادية. فصفحات الويب
تختلف عن الصحف ليس فقط على المستوى النصي، بل وعلى المستوى المادي. والآيباد وسيط
مادي يختلف عن الكتاب . فالقوالب المادية الجديدة للنصوص لها آثار هامة على أمور
من قبيل طرق اطلاع الناس على النصوص، وعلى السياقات المادية والاجتماعية المحيطة
بالنصوص، وطرق استغلالنا للنصوص ماديا. ويوضح لنا ميرشانت مثلا كيف جعلت أجهزة
التابلت من القراءة نشاطا باستخدام اللمس، عملا يتطلب من القراء إتقان أعمال مثل
النقر، والسحب، والضغط. وبالمثل، يبين لنا كارينجتون كيفية استخدام المراهقين
لهواتفهم المحمولة ليس فقط كأدوات للإطلاع على النصوص، بل كيفية استعمالهم لها
كنصوص، ككيانات ينقلون من خلالها أشياء مثل هوياتهم، وانتماءاتهم، وتوجهاتهم تجاه
الآخرين.
السياقات
إن العنصر الثاني الهام في تحليل الخطاب هو
الانتباه إلى المواد والسياقات الاجتماعية التي تنتج فيها النصوص وتستهلك، وتستخدم
للقيام بأفعال اجتماعية بعينها. فلا يكمن معنى النصوص وجدواها في العناصر النصية
فقط، بل وأيضا في كيفية وضعها داخل السياقات الفعلية للتواصل. وفي الواقع، لا
يعتبر تحليل النصوص الذي يتم مباشرته بدراسة العناصر الشكلية للنص مثل الجوانب
النحوية والدلالية وتتابع النص تحليلا فعليا للخطاب، لأن الخطاب هو كل شيء يتصل
بربط النصوص والمحادثات بالعالم الحقيقي.
إن فهم تأثير السياق على اللغة والأنظمة السيميائية
الأخرى مسألة معقدة بما فيه الكفاية عند التعامل مع النصوص التقليدية، المكتوبة
والمحكية، لأن هذا الفهم عليه أن ينتبه لأبعاد السياق المتعددة بما في ذلك الأبعاد
المكانية والزمانية، فضلا عن الأبعاد المادية والمعرفية التي ينشئها الفاعلون
الاجتماعيون، والأبعاد “الناجمة عن” تصرفات الناس وتفاعلاتهم. وعلاوة على ذلك،
لابد عند البحث في سياق الخطاب النظر فيما يسميه مالينوفسكي (1923) “سياق
الثقافة”، أي مجموعة التوقعات العامة التي تتصل بكيفية تصرف الناس في المواقف
المختلفة وفق ما هو مفترض.
لقد جعلت التكنولوجيا الرقمية كل أبعاد
السياق أكثر تعقيدا. حيث غيرت خبرتنا بالأبعاد المكانية والزمانية للسياق من خلال
بناء شرائح معقدة من المساحات الموجودة على الانترنت وخارجه. كذلك غيرت خبرتنا
بالسياقات الاجتماعية، مما يسمح لنا بالمشاركة في مجموعة واسعة من التجمعات
الاجتماعية المتزامنة وغير المتزامنة التي يجتمع فيها عناصر مختلفة من المشاركين.
وكانت هي السبب في تغيير خبرتنا بسياق الثقافة من خلال تمكين التدفقات العالمية
الجديدة والمعقدة من المنتجات والأفكار الثقافية من الوجود.
إن كثيرا من الأعمال الأولى حول الخطاب
الحاسوبي تضع تمييزا واضحا بين سياق الاتصال عبر الانترنت وسياق التواصل بدون
الانترنت؛ ومع ذلك، فإن الدراسات الحالية، بما فيها عدد من الفصول الواردة في
الكتاب الحالي، تعي أن بحث سياقات الممارسات الرقمية يجعلنا نعمل على فهم طرق
تفاعل الأمور الواقعية والافتراضية، من أمكنة وأزمنة ونظم تفاعل وثقافات. وكما
يقوم الأطفال الموصفون في فصل هافنر بالتنقل بين الفضاءات المختلفة على الانترنت
والانخراط في أنشطة مختلفة مع لاعبين آخرين يلعبون لعبة وحوش موشي، فإنهم يعيشون
أيضا في الأماكن الحقيقية في أوطانهم، حيث يجب عليهم التفاوض مع غيرهم من حضور
الأنشطة المختلفة، بما في ذلك الأب-الباحث. ومثل المتفاوضين الموصوفين في فصل جونز
الذين ينتقلون عبر الأماكن الحقيقية، وتظهر الطرق التي يقطعونها على شاشات
الكمبيوتر والهاتف الذكي، شاشات أتباع نايك الموجودين في أماكن حقيقية أخرى. وكما
تظهر شخصيات قصص الأطفال الرقمية الواردة في فصل ميرشانت وتتحرك عبر شاشات
اللابتوب، نجدها تؤثر على تكوين الأماكن والأجساد في البيئات الحقيقية التي يتم
قراءتها فيها.
وفي ظل هذه الظروف، لعل واحدة من أهم القضايا
التي تواجه محللي الخطاب هي تطوير أساليب لتتبع طريقة تقلب النصوص والمعاني،
والعلاقات الاجتماعية، والهويات المرتبطة بها أثناء انتقالها من سياق إلى آخر،
وتحركها عبر الفضاءات الافتراضية والحقيقية، وفي تزامنها تلقائيا في بعض الأحيان
عبر وسائل متعددة، وعند الاعتماد عليها في مواقف قد لا يتوقعها المنتجون أبدا.
ومثلما نجد التناص وتعدد الوسائط جوانب محددة يتسم بها الخطاب الرقمي، كذلك الحال
بشأن عملية إعادة بناء السياق. ولعل منهجنا في تأليف النصوص وقول الأقوال يعتمد
على منهجنا في التنبه للسياقات التي سيتم تفسيرها فيها، فصناعتنا للمعاني يعتمد
على توقع ما يسميه نيسينباوم (2009) “التكامل السياقي”. ولعل شبكات السياق
المتداخلة والمعقدة التي تصنعها التكنولوجيا الرقمية قد تجعل من الصعوبة بمكان
الحفاظ على مفهوم التكامل السياقي.
والأمر بالنسبة لمحللي الخطاب ليس مسألة
نظرية فقط، بل مسألة أخلاقية أيضا، كما يشير كينج في فصله عندما قام بتحليل
محادثات الشواذ من الرجال في غرف الدردشة “العامة”. إذ بحسب كينج، رغم كون هذه
المحادثات متاحة للجمهور، لا يجعلها ذلك بالضرورة “عامة”. فمعظم الاتصالات عبر
الإنترنت في سياقات مثل غرف الدردشة ومواقع الشبكات الاجتماعية، بحسب رأيه، “ليست
عامة بطبيعتها ولا خاصة؛ بل تعتمد على …
طريقة رؤية كل مشارك لسياق الاتصال”. فالبحث
عن الموافقة المسبقة هو، بالنسبة له، وسيلة لاكتشاف مشاعر المشاركين تجاه السياق.
هذه الحجة قد تجعل جميع دارسي الممارسات الرقمية يتوقفون لينظروا مليا في علاقاتهم
مع الناس الذين يدرسونهم ومسؤولياتهم تجاههم. وينبغي أيضا أن تذكرنا بأن السياقات
ليست مصنوعة سلفا، وإنما ناجمة إلى حد كبير عن الممارسات التي ينخرط الناس فيها.
وأخيرا، تذكرنا هذه المناقشة لعمليتي تقويض
السياق وإعادة بنائه بأن أي دراسة للممارسات الرقمية لابد لها، بحسب ميرشانت، ألا
تكتفي فقط بالوقوف على ما يحيط الممارسة الرقمية من سياقات مادية وفعلية وموقفية،
بل عليها أن تهتم أيضا بالنظر في السياقات العالمية الأوسع التي يتم فيها إنتاج
التقنيات والمعلومات، وتعميمها، وتقييمها. وهناك، على سبيل المثال، أمر أساسي، لا
يكمن فقط في تكنولوجيا الانترنت ولكن أيضا في اقتصاده، بل ويمضي في مسار مضاد مع
تكامل السياقات، مما يجعل الأمر أكثر صعوبة أمام المشاركين في غرف دردشة الشواذ،
ومستخدمي تطبيقات التتبع الذاتي التجارية، والمتعلمين في مواقع تعلم اللغة على
الانترنت، والأطفال في العوالم الافتراضية، للحفاظ على هيمنتهم على النصوص التي
يقومون بإنتاجها.
الأفعال والتفاعلات
ولعل أهم ما يميز محللي الخطاب عن غيرهم من
اللغويين هو تركيزهم ليس فقط على بنية النصوص ومعناها، ولكنهم يركزون أيضا على
كيفية استخدام الناس للنصوص للقيام بأفعال اجتماعية ملموسة. فبداية من انشغالهم
باكرا بطريقة توظيف الناس للكلمات حتى اهتمامهم الحالي باللغة بوصفها “وسيلة نقل”،
نجدهم منشغلين منذ زمن بعيد ليس فقط باللغة ولكن “باللغة قيد الاستخدام”. ولأن
المساهمين في الكتاب ينشغلون بدراسة الإعلام الرقمي وما أنتجه من أشكال خطاب، كان
السؤال المركزي الذي يطرحونه هو كيف تسمح “تقنيات صناعة النصوص” الجديدة وما تنتجه
من نصوص للناس بالقيام بأمور مختلفة أو بالقيام بأشياء قديمة بطرق متباينة.
وفي كل فصل من فصول هذا الكتاب سوف تجد كلمة
“إمكانيات” مستعملة لتعني طرق الإعلام الرقمية التي تنتهجها للقيام بأفعال بعينها.
ويأتي المصطلح من أعمال عالم النفس الإدراكي جيمس ج. جيبسون، الذي استخدمه لوصف
قدرة البيئات، والمواد، والأماكن، والأحداث، وغيرها من المخلوقات، والمنتجات (مثل
التقنيات والنصوص) على العمل كأدوات لأداء أفعال معينة. ولعل واحدة من مشاكل حديث
الناس أحيانا عن إمكانيات الإعلام الرقمي هي حديثهم عنها كما لو كانت خصائص
للتقنيات، والتقليل من فعالية المستخدمين وتأكيد الحتمية التكنولوجية. ومع ذلك
يبين جيبسون أن الإمكانيات ترتبط بالمستخدمين كما هي مرتبطة بالتقنيات. وفي عمله
الكلاسيكي، المعنون بـ”المقاربة البيئية للإدراك البصري”، يكتب عن المصطلح، فيقول
…
“إنني أعني به كل من
البيئة والحيوان على نحو لا يدل عليه أي مصطلح سواه. فهو ينطوي على التكامل بين
الحيوان والبيئة. ولعل هذا التكامل بين التقنيات والمستخدمين هو موضوع يتكرر
التأكيد عليه في فصول عديدة بالكتاب الحالي، بداية من شرح جيي لكيفية بحث
اللاعبين، عند لعبهم ألعاب الفيديو، عن إمكانيات في قواعد اللعبة أو في الأدوات
المختلفة التي توفرها اللعبة وتتماشى مع “قدراتهم الفعالة” (أو قدرات أندادهم) ،
وهي الظاهرة التي فصلها هافنر ومارش تفصيلا. وبالمثل، يصف جونز اعتماد فعالية
تطبيقات الهاتف الذكي في وضع نظام غذائي وممارسة التمارين الرياضية اعتمادا كبيرا
على كيفية تفاعل المستخدمين معها في المراحل المتعددة من عمليات إدخال البيانات
وتفسير المخرجات، بحيث يصبح المستخدمون أنفسهم شغوفين بالتقنيات لتمثل لهم ما
يسميه “آليات الخدمة”. ولعل أفضل الأمثلة على الطابع التفاوضي للإمكانيات يمكن أن
نراها في وصف بارتون للإمكانيات التي يجدها مستخدمو فليكر في وظيفة التوسيم على
الموقع التي تسمح لهم بالقيام بأشياء لم يتخيلها مصممو الموقع. وبحسب ما يكتبه
بارتون فإن “المساحة الإبداعية التي تفصل بين المصمم والمستخدم، التي يمكن أن يحدث
فيها ما هو غير متوقع، هي التي تعبر عن معنى مفهوم الإمكانية”.
إن النقطة الرئيسية الماثلة في هذه الملاحظات
هي أن التكنولوجيا الرقمية (مثل كافة الأدوات الثقافية) لا تمثل عاملا حاسما
للاستخدام. فعلى الرغم من تأثيرها على ما يمكننا القيام به بطرق هامة، بتضخيم
جوانب مختلفة من تصورنا وأعمالنا أو تقليصها، يكيف الناس أيضا التقنيات بانتظام
بحسب الظروف أو الأهداف المختلفة، ويقومون بتعديلها بحسب السياقات المتباينة،
وتعديلها، ومزجها مع غيرها من الأدوات بطرق من شأنها أن تغير إمكانيات الفعل التي
يمكن أن نجدها فيها. وتبين لنا ليي lee، على سبيل المثال، كيف تتغير إمكانيات الأشكال
اللغوية المرتبطة بالرسائل النصية والرسائل الفورية عندما يتم تكييفها مع السياقات
الجديدة من العلامات الحضرية، ويبين سنايدر كيف يتم استغلال إمكانيات شبكة
الإنترنت في جمع المعلومات و”تنظيمها” بطريقة مختلفة على يد المسوقين والمعلمين.
ولعل طريقة استخدام الناس للتقنيات الرقمية، والممارسات الاجتماعية المختلفة التي
تلازم استخداماتهم لها، هي نتاج المعالجة الفعالة لتوفيق الأمور التي يريد الناس
القيام بها مع الأمور التي تتيحها التقنيات لهم.
وعندما ينجز الناس عملا من الأعمال باستخدام
التقنيات والنصوص، نادرا ما يفعلون ذلك فرادى. فهم دوما يقومون بذلك مع آخرين أو
بعون منهم. وبذلك يعتبر التفاعل جانبا من جوانب الفعل التي تهم محللي الخطاب،
ويسميها بـ”العمل المشترك” الذي ينخرط فيه الناس لبناء العالم الاجتماعي. ولعله
منذ الأشكال الأولى للاتصال الحاسوبي، والتقنيات الرقمية قد أخذت في تحدي مقاربة
محللي الخطاب للتفاعل. وهناك ثلاثة أسباب رئيسية لذلك: أولا، تتسبب الاختلافات
الحاصلة في طريقة تزامن التفاعلات الحاسوبية في تغيير طريقة تعامل المحللين مع
قضايا مثل إدارة الحوار، والقرب، وإدارة الموضوعات. وثانيا، أن المواد المختلفة…
والأدوات السيميائية التي
توفرها التقنيات الرقمية قد غيرت طريقة إدارة الناس لأمور مثل الرصد المتبادل
وبناء سياق وإتاحة مجموعة من الأشكال الجديدة من “الاحتكاك المنخفض” في التواصل
الأساسي والهام مثل الرسائل النصية والنقر على كلمة “أفضل”. وأخيرا، تيسر
التكنولوجيات الرقمية مجموعة جديدة من أطر المشاركة في التفاعل، بما يتيح للناس
فرصة القيام بأدوار ومسئوليات وجها لوجه مع محاوريهم، وتوفير طرق جديدة لإنجاز
أمور مثل “عزل الجمهور” و”الملازمة المستمرة”.
إن الفصل الذي كتبه بينسون هو الذي اهتم بهذه
القضايا بوضوح شديد، حيث يبحث كيف يمكن تكييف الأدوات التي استخدمت في تحليل
تفاعلات الوجه للوجه بحيث يمكن استعمالها في تحليل فهم التفاعلات الحاصلة على موقع
يوتيوب، ومع ذلك نجد ذات القضايا مطروحة في مناقشة بارتون لدور الوسوم في التفاعل
على موقع فليكر، وكذلك في مناقشة هافنر لكيفية تفاعل المشاركين في العوالم
الافتراضية للأطفال مع بعضهم البعض ومع أندادهم، وفي دراسة مارش للتفاعل الحاصل
بين منتجي الموسيقى المصورة لنادي بنجوين ومشجعيهم، وفي مناقشة جونز لكيفية تحويل
تطبيقات التتبع الذاتي لأشياء مثل ممارسة الرياضة وإتباع نظام غذائي إلى أشكال من
التفاعل الاجتماعي. وفي الوقت نفسه، يبين كل من كارينجتون وميرشانت كيف تقوم
التقنيات الرقمية بتغيير طرق تفاعل الناس على الانترنت، وطرق تفاعلهم في الأماكن
الحقيقية التي تستخدم فيها هذه التقنيات.
إن أحد الأسئلة الهامة التي تتبدى في هذه
المناقشات هو ما الذي يشكل التفاعل بالفعل في البيئات الرقمية. فيميز لنا بينسون،
نقلا عن رفايلي وارييل (2007)، بين نوعين من التفاعل، أحدهما يتصل بطرق تفاعل
التقنيات مع البشر، ويسميهما رفايلي وارييل “بالقدرة على الاستجابة”، والآخر يتصل
بالطرق التي تتيحها التقنيات للتفاعل بين البشر. ومع ذلك لا يوجد في الفصول الأخرى
هذا التمييز. وعندما يتفاعل من يصفهم جونز بالمتتبعين مع التطبيقات التي تستجيب
بناء على السلوكيات المتراكمة لجميع المستخدمين الآخرين، هل يعتبر هذا التفاعل
تفاعلا مع التطبيقات أم مع المستخدمين الآخرين؟ وعندما يتفاعل الأطفال الذين وصفهم
هافنر مع وحوشهم أو وحوش غيرهم من اللاعبين في العالم الافتراضي لوحوش موشي، فمع
من بالضبط تجري هذه التفاعلات – مع الناس، أم الوحوش، أم البرامج التي تتحكم فيهم؟
في الواقع، عندما نقوم أحيانا باستخدام التقنيات الرقمية، ننخرط في تفاعلات متعددة
مع غيرنا من البشر، مع الأنداد المتخفيين، والتعليمات الحاسوبية، والمؤسسات. ولعل
النقطة الهامة التي وضعها هافنر هي أن أي تفاعل مع التقنيات يمثل أيضا حوارا مع
المصممين لهذه التقنيات، وهي نقطة تعزز الملاحظة التي أشرنا لها سلفا بشأن
“إمكانيات الفعل” – من أن الإمكانيات ليست مجرد ما تسمح لنا التكنولوجيات القيام
به – فهي شكل من أشكال التواصل بين مصممي التقنيات ومستخدميها.
والسؤال الهام الآخر الذي طرحه المساهمون
يتصل بآلية تشكيل الأدوات التكنولوجية طرق الناس في التفاعل، …
وما ينتجه هذا التفاعل من علاقات وهويات
اجتماعية. ويقدم هافنر واحدا من التفسيرات الأكثر دراماتيكية لهذا السؤال في
تحليله للمواقف المختلفة للمشاركين في لعبة وحوش موشي تجاه الوحوش، فأحيانا ما
يتعاملون معهم كنسخ منهم، وأحيانا أخرى يتعاملون معهم كحيوانات أليفة، وفي حين آخر
يتعاملون معهم كأدوات لإنجاز أفعال في عالم اللعبة. كذلك تستخدم تشيك نظرية تحديد
المواقع في مناقشتها لأنواع مختلفة من الهويات والعلاقات التي تتيحها مواقع تعلم
اللغة على الانترنت للمستخدمين. وكل من هذين الفصلين يبينان كيف أن أنواع العلاقات
والهويات التي تشجع عليها المواقع تساهم في نشوء بعض الممارسات الاجتماعية والحفاظ
عليها من خلال تعزيز ما يسميه ديفيز وهاري “مسارات الحكي”. وبالمثل، يوضح مارش كيف
تتسبب التفاعلات الحاصلة في شبكات الند للند، التي تتشكل حول موسيقى نادي بنجوين
المصورة، في إعادة إنتاج حكايات الاعتراف، والوضع، والمنافسة التي تحاكي المشاهير-
علاقات المعجبين بالإعلام الأكثر انتشارا. ولعل أهم ملاحظة يمكن تقديمها حول
الأفعال والتفاعلات، إذن، هي كيف تمثل لبنات أساسية للممارسات الاجتماعية والحفاظ
على التجمعات المرتبطة بهذه الممارسات.
الأيديولوجيا والسلطة
إن العنصر الهام الأخير في تحليل الخطاب هو
الاهتمام بطريقة قيام الخطاب بتدشين “رؤى بعينها للواقع” (أيديولوجيات) وعلاقات
سلطوية محددة بين الأفراد والجماعات. هذا الاهتمام لا يمثل فقط جانبا من جوانب
التحليل النقدي للخطاب، كما نجد في الفصول التي كتبها سنايدر وسلوين، أو تحليل
الخطاب الفوكوي، على النحو الذي تمارسه مارش في فصلها، ولكنه واضح أيضا، على سبيل
المثال، في تطبيق تشيك وهافنر لنظرية تحديد المواقع، وتطبيق جونز لتحليل خطاب
الوسائط، وتحليل بنسون لتنظيم التفاعلات عبر الإنترنت، واعتناء بارتون بالتوسيم Tagging. وفي الواقع، تسلط فصول الكتاب الحالي، بطريقة أو
بأخرى، الضوء على طرق تأثير التكنولوجيا الرقمية على فهم الناس للعالم وتعاملهم مع
بعضهم البعض، وكيف يؤثر هذا على كيفية توزيع السلع الاجتماعية المادية منها
والرمزية.
لعلنا نستطيع أن نرى طريقة عمل السلطة
والأيديولوجيا في الأجندات الأيديولوجية والتحيزات التي يعرب عنها في الخطاب الذي
يجري تداوله من خلال الإعلام الرقمي. وقد أوضح عديد من الدارسين على مر السنين كيف
أن وسائل الإعلام الجديدة، على الرغم من “حداثتها” ووعود الديمقراطية” و”المساواة”
المرتبطة بها، تعزز وتعكس نفس التحيزات والافتراضات الأيديولوجية التي نجدها في
“الإعلام القديم”. وهكذا، كما يوضح مارش، على الرغم من الفرص الجديدة والإبداعية
التي تتيحها شبكات الند للند الاجتماعية للشباب لإنتاج منتجاتهم الإبداعية
وتبادلها، …
غالبا ما تعمل هذه العمليات على إعادة إنتاج
قيم الإعجاب والشهرة الموجودة في وسائل الإعلام القديمة. وعلى الرغم من وعود
التعلم المجاني على مواقع تعلم اللغة التي قام تشيك بتحليلها، يصنف المتعلمون
باستمرار بناء على قيامهم بالدفع مقابل “العضوية المميزة” أو عدم قيامهم بذلك.
فالعوالم الافتراضية مثل عالم وحوش موشي لا توفر فقط مساحات لإمتاع الأطفال،
ولكنها أيضا تعلمهم كيف يقيمون أشكالا محددة من الاستهلاك، والعلاقات الاجتماعية
ومفاهيم الخصوصية والسلامة، وكذلك لا يقوم موقع مثل Nike+ بتشجيع المستخدمين على ممارسة الرياضة، بل ويحولهم
أيضا لمعلنين افتراضيين لمنتجات الموقع. وبقدر ما تيسر الممارسات الرقمية، التي
نوقشت في الكتاب الحالي، أمورا مثل الإبداع، والتعلم، وتحسين الذات، يبدو أن أفضل
ما تيسره هو الممارسات التجارية وتعزيز القيم السائدة، قيم المنافسة والاستهلاك
المفرط.
ولا يتم التعبير عن هذه القيم والعلاقات في
النصوص كثيرا، كما هو حال مستخدمي البرامج ومستخدمي قنوات واجهات الويب في أفعالهم
وتفاعلاتهم. فالأفعال الإضافية الصغيرة، مثل نقر شيء دون آخر، وملء حقل نصي بطريقة
معينة، والقبول “بالشروط والأحكام”، ووضع هاشتاج ييسر البحث عن المحتوي والناس، أو
النقر على اختيار “أفضل” عند رؤية صورة أو فيديو، كما ذكرنا أعلاه، هي لبنات بناء
الممارسات والهويات الاجتماعية، وغالبا ما يكون لها عواقب قد لا يكون المستخدمون
على علم كامل بها. وما يجعل تحليل طريقة عمل السلطة والأيدولوجيا عملا معقدا عندما
يتصل البحث بالتكنولوجيات الرقمية هو حقيقة أن الافتراضات الأيديولوجية والعلاقات
الاجتماعية ليست مجرد أمور منقوشة في النصوص، ولكنها مغموسة أحيانا في التعليمات
الحاسوبية التي تعمل تحت سطح النصوص وتؤثر جذريا في طريقة خبرتنا للعالم (أي نوع
المعلومات التي نطلع عليها، والسلوك الذي يستحق المكافأة والتشجيع، وأي صنف من
الناس يعتبر طبيعيا)، وهي المسألة التي وقف عليها جونز في نقاشه لمواقع الصحة
واللياقة البدنية، ولكنها ترد أيضا في الفصول الأخرى، لدى بارتون، وبنسون، وتشيك
وجي، ومارش، وسنايدر.
ولعل الموضع الآخر الذي يستطيع فيه أن يجد
محللو الخطاب المعنيين بدراسة العلاقة بين الأيدولوجيا والسلطة داخل الممارسات
الرقمية، هو ما نجده في طرق تمثيل التقنيات والممارسات الرقمية في الخطاب العام،
وهو موضوع تناوله سنايدر وسلوين. حيث تناقش ليي، مثلا، كيف أن امتلاك “لغة النت” netspeak في الخطابات التجارية كان يمثل تحولا من “أيديولوجيا
اللغة” التي تم فيها تهميش الممارسات النصية لمستخدمي الإنترنت، ومعظمها من صنع
الشباب، إلى لغة تسجل بها هذه الممارسات وتسلّع. كذلك تدرس سنايدر الطرق المختلفة
التي يتم بها عرض الممارسة الرقمية لـ”الحفظ” curation في مجالات التسويق الرقمي والاتصال عبر الإنترنت،
والتعليم عبر الإنترنت والدراسات الأدبية الرقمية، فتكشف لنا كيف تؤدي التحيزات
الأيديولوجية لهذه المجالات المختلفة إلى تصورات مختلفة جذريا حول ما يعنيه إنشاء
نص، وامتلاكه، ونشره. فالحفظ بحسب رأيها …
“أيديولوجي دوما، وبلاغي دائما، وغالبا ما يكون سياسيا”. وأخيرا،
يحلل سلوين ما يسميه “خطاب التعطل” الذي يهيمن على وسائل الإعلام ومناقشة سياسة
تأثير التكنولوجيات الرقمية على التعليم. ففي حين أن غالبية الخطاب العام حول
التكنولوجيا يركز على قدرتها على تعطيل “الممارسات القديمة” وإدخال طرق جديدة
وأفضل للقيام بأمر من الأمور، يكشف سلوين عما يخفيه هذا الوعد أحيانا من تعزيز
لقيم السوق الحرة القديمة وأجندة الليبرالية الجديدة التي هيمنت على التعليم في
العقود القليلة الماضية. إذ تذكرنا فصول الكتاب الحالي بأنه على الرغم من الوعود
التي قدمتها التكنولوجيات الرقمية من أنها ستخفف التلاعب الخطابي عبر منح الناس
العاديين القدرة على صنع النصوص وبثها، لا تزال قواعد اللعبة تضعها مجموعة صغيرة
نسبيا من كبار اللاعبين.
الخلاصة: تحليل الخطاب كممارسة رقمية
بقدر ما ألقت فصول الكتاب الضوء على كافة
الممارسات الرقمية، أبرزت ممارسة تحليل الخطاب نفسها، وإمكانيات ومعوقات مختلف
الأدوات التحليلية والنظرية التي نستفيد منها في هذه الممارسة. وفي هذا الصدد،
ظهرت عدد من المواضيع الهامة. ولعل أحد الموضوعات الأكثر منطقية هو عدم كفاية
المقاربات التي تركز فقط على بيانات نصية بعيدا عن سياق استخدامها. ومن ثم ليس من
المستغرب أن العديد من المساهمين يختارون كثيرا من المقاربات الإثنوجرافية لجمع
البيانات، والتوليف بين مجموعة من النصوص عبر المقابلات والملاحظات المستمرة
للمستخدمين. ويشرع مختلف المساهمين كل بطريقته، وذلك باستخدام أدوات مثل استخدام
كارينجتون للمقابلات المتعمقة وجها لوجه، واستخدام بارتون ومارش لمقابلات
الانترنت، واستخدام جونز المجموعات البؤرية، واستعمال هافنر لأسلوب جلسات التذكر
المحفز، واستخدام ميرشانت لطريقة جمع ملاحظات الفيديويهات واستعمال ليي لطريقة جمع
البيانات الفوتوغرفية، واستخدام جونز وتشيك للاثنوجرافيا الذاتية، ولجوء كارينجتون
لاثنوجرافية الموضوع. والموضوع الآخر الهام الذي نجده في ثنايا الكتاب هو دور
التكنولوجيا الرقمية ليس فقط كموضوع للبحث ولكن أيضا كأداة بحثية. إذ بالنسبة لبعض
المساهمين، مثل كينج في استخدامه لأدوات المتن، ولجوء ليي إلى موقع فليكر،
واستعمال ميرشانت للفيديوهات الرقمية، يعتبر الاعتماد على التقنيات الرقمية كأدوات
بحث مسألة مقصودة، ولكن، في الواقع، كل دراسات المجلد الحالي أجراها الباحثون
أنفسهم حال انخراطهم في الممارسات الرقمية (بما في ذلك البحث عن محتوى على شبكة
الإنترنت وحفظه، واستعمال ألوان مختلفة من التطبيقات، والتفاعل مع المشاركين من
خلال مواقع الشبكة الاجتماعية، والبريد الإلكتروني أو برامج الدردشة). وكما يجب
علينا أن نسأل كيف لممارسات مثل التتبع الرقمي ووسم الصور على موقع فليكر، والتحدث
في غرف الدردشة المخصصة للشواذ من الرجال، ولعب لعبة الوحوش الافتراضية، وجميع
الممارسات الأخرى الموصوفة في هذا الكتاب، قد تأثرت بإمكانيات التكنولوجيا الرقمية
وقيودها، وكيف أن هذه الممارسات تسهم في تشكيل أنواع معينة من العلاقات
الاجتماعية، وأشكال من الهويات والوقائع الاجتماعية، ويجب علينا أيضا التفكير في
آلية تأثير هذه التكنولوجيا نفسها…
على أنواع البيانات التي يمكن جمعها، وأشكال
العلاقات التي نطورها مع المبحوثين الذين ندرسهم، وأنماط الهويات التي نشكلها
كباحثين، و”رؤى الواقع” التي تروج لها دراساتنا في نهاية المطاف.
وكما جادلنا في المقدمة الحالية، تجبرنا عديد
من الممارسات الاجتماعية التي أصبحت ممكنة بفضل التكنولوجيا الرقمية على إعادة
تقييم أدواتنا التحليلية وفرضياتنا النظرية، ومع ذلك فإننا لا ترغب في وضع هذه
الدراسات داخل “خطاب التعطيل” الذي وصفه سلوين. إذ بقدر ما أثبتت فصول الكتاب
الحالي كيف أننا نحتاج أحيانا لتغيير وتكييف أدواتنا مع الظروف الجديدة، فإنها
أوضحت أيضا قوة مصداقية أدوات تحليل الخطاب – أدوات تحليل النصوص، والسياقات،
والأفعال، والتفاعلات، والسلطة والأيديولوجيا – لرفع وعينا بممارسات الناس حال
انخراطهم في مع التقنيات الرقمية على نحو لا تستطيع أطر التحليل الأخرى أن تكشف
عنه.
[1] ) Rodney H Jones, Alice Chik and Christoph A Hafner (eds.), Discourse and
Digital Practices: Doing discourse analysis in the digital age, Routledge
press, 2015.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق