*ترجمة: أنوار طاهر |
من المتعارف عليه أن اغلب المفاهيم الفلسفية تتضمن على خصائص من
الخلط الاصطلاحي وعدم الدقة في التحديد والتعريف، وهذا ما ينطبق بالضبط على مفهوم
التعددية’’pluralisme’’ وعلى
نقيضه أيضا أي مفهوم الأحادية ’’monisme’’. وذلك يعود في احد أهم أسبابه إلى اختلاف
سياقات الحقول المعرفية التي يجري فيها تطبيق تلك المفاهيم، والذي يؤدي بالضرورة
إلى إحداث تغيير جذري في معاني تلك المفاهيم ونطاق فاعليتها.
فبينما تكشف الخبرة expérience في مفهوم الحس المشترك sens commun عن
ظواهر phénomènes الوجود
اليومي المتكثرة والمتباينة، نجد أن صاحب القصائد العظيمة واحد رواد المدرسة
الايلية الفيلسوف اليوناني بارمنيدس Parménide (حوالي 512-450 ق.م) الذي تشكلت معه
جينالوجيا تاريخ الميتافيزيقا الغربية التقليدية métaphysique occidentale قد عارض
مفهوم كثرة المظاهر multiplicité des apparences بمفهوم
الوجود réalité Être/ essence / الثابت
والجوهر المطلق الأبدي والنظامي المتناسق uniforme والمتطابق مع ما هو ضروري في العقل وليس
عرضي. لهذا السبب، تُعرّف فلسفة بارمنيدس بوصفها فلسفة أحادية أنطولوجيةmonisme ontologique في
استبعادها أي ظاهرة يزعم بوجودها الرأي العام opinion commune، بوصفها ظاهرة لا يمكن لها أن تكون سوى
مظهرا نسبيا للجوهر الثابت للأشياء.
من هنا، تمثل
النزعة التوحيدية monothéisme احد أشكال
الأحادية monisme، وذلك يتضح
من خلال استنادها على فكرة وجود إله واحد حقيقي وجوهري في الكون وهو الخالق لكل
الموجودات في العالم. واستبعادها صور التعددية الإلوهية في الديانات القديمة
لكونها ليست إلا أوثان. وقد تبلورت تلك النزعة في المفهوم الفلسفي لفكرة الإله
الواحد في العصور الوسطى واعتباره الإله الكامل، وأنموذجا modèle للعقل الإنساني والضامن الوحيد لكل حقيقة في
العالم. ولم تعد تمثل المعارف الإنسانية سوى انعكاس باهت وغير كامل للمعرفة
الإلهية حسب رأي الفيلسوف وعالم اللاهوت المسيحي القديس أوغسطين saint Augustin (354-430 ق.م). نتيجة
لذلك، ظلّ المثال الحقيقي بالنسبة للعلماء ولعدة قرون، يتمثل في ضرورة العثور على
الحقائق vérités التي لا
يدركها سوى العقل الإلهي منذ الأزل.
كان لهذه
الفكرة حول الإله الواحد الذي يمتلك الحل الصائب والسليم لجميع المشاكل الإنسانية
المتعلقة بقواعد الأخلاق morale وبأي مسألة من المسائل
المرتبطة بتوجيه السلوك الإنساني، كان لها الأثر الكبير في نشأة الأحادية القيّمية
monisme axiologique التي تتأسس على فكرة أن كل
صراع قيّمي يتضمن على طريقة واحدة يمكن بواسطتها القضاء على الاختلاف في الرأي،
وتتمثل في اختزال جميع أشكال القيّم وتنوعاتها اللامتناهية إلى مفهوم أحادي يحمل
كل دلالات الكمال والإطلاق في الصواب والنفع utilité. وبذلك، ستكون جميع
الظواهر والقيّم المختلفة والمتعددة ليست سوى مظاهر متنوعة لجوهر أساسي ينبغي
علينا أن نسعى إليه لغرض إكساب القيّم شكلا أحادي المعنى والاستعمال univoque وذلك من خلال سيطرة أشكال
تراتبية ومسستمةhiérarchiser et systématiser . من هذا المنظور، جرى
الوصول إلى استنتاج مفاده أن سبب وقوع جميع الصراعات conflits الإنسانية إنما يعود إلى
رفض الإنسان الانقياد لأحكام ألتوجيه والإرشاد العقلاني الأحادي، وانصياعه لتأثير
الخيالimagination والأهواء passions والمصالح الشخصيةintérêts. وهذا ما أشار إليه
الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا Baruch
Spinoza (1632-1677) -الذي تمثل فلسفته أنموذجا أساسيا متكاملا في الفلسفة الأحادية-
في مؤلفه علم الأخلاق L’Ethique (الكتاب الرابع، الفرضية
السادسة والتسعون)، في تحديده أن الإنسان الحر هو ذلك الإنسان الذي يقوده العقل
وحده، وأن مفهوم الحرية liberté متطابق مع العقل raison تماما، لذلك كل ما ينصح
العقل به إنسان بعينه هو ينطبق بالضرورة إذن على جميع الناس (الكتاب الرابع،
الفرضية السابعة والعشرون). نتيجة لهذا، لا يمكن للناس الأحرار إلا أن يكونوا
متفقين فيما بينهم.
ومن جهة أخرى، عادة ما توضع مفاهيم
الأحادية الانطولوجية أو الأحادية القيّمية جنبا إلى جنب مع مفهوم الأحادية
المنهجية monisme méthodologique والذي يؤكد على ضرورة
استعمال المنهج ألبرهاني باعتباره المنهج الرياضي الوحيد الذي ينبغي إتباعه لغرض
الوصول إلى الحقيقة في جميع الحقول المعرفية. لنتوفر على اليقين ذاته الذي نتوفر
عليه في المعرفة الرياضية.
أما آخر أشكال الأحادية التي أود الإشارة
إليها هي الأحادية السوسيولوجية monisme
sociologique التي تجعل من منظور رؤيتها لعلاقة الفرد مع إله واحد، مثالا يتأسس
عليه في دراسة علاقة الفرد مع المجتمع. فعلى سبيل المثال، يعتبر عالم السوسيولوجيا
الفرنسي الفيلسوف إميل دوركهايم (1858-1917) أن القواعد règles الأخلاقية التي يفرضها
الضمير conscience الفردي هي ليست أوامر إلهية
وإنما أحكام قيّمية مفروضة من قبل الضمير الجماعي conscience
collective الذي يمثل تعبيرا عن المجتمع حيث يعيش الفرد. وفي ضوء هذا الرأي،
تكون الدولة L’Etat هي الأمة nation التي تكتسب تنظيما سياسيا
وتشريعيا؛ وترسخ لدى جميع أفرادها مجمل القيّم valeurs المعترف بها
والممارسات الإلزامية وذلك من خلال تحديد ما هو مسموح منها وما هو ممنوع وما ينبغي
أن يكون، ويجري تحقيق ذلك بواسطة التقليد tradition والتربية l’éducation.
وتتسم النزعة الأحادية بخاصية القدرة
على إنتاج مفهوم نسقي وعقلاني systematisé
et rationalisé لمظاهر الكون المختلفة في شتى الحقول المعرفية، وعلى تحديد وتشريع
حل واحد بعينه لجميع الصراعات الإنسانية، الذي سيؤدي لا محالة إلى القضاء على
أشكال المعارضة والاختلاف في الرأي. مما صعَّد بالضرورة من خطاب الأيديولوجيات
الأحادية idéologies monistes الذي يعزز من النزعة
الاختزالية réductionnisme المتعصبة والمتطرفة في
كثير من الأحيان. فعندما تخفق في بسط نفوذ المبادئ التي تدافع عنها، تلجأ على
الفور إلى تبرير تلك المبادئ بأسم الرب Dieu؛ العقل؛ الحقيقة، مصلحة
الدولة أو الحزب parti، وفرضها بواسطة استعمال
أدوات القسر contrainte والقوة force والبطش بالمعارضين لها.
أضف إلى إنزال اشد أنواع العقاب بحق كل فرد مناهض لتلك المبادئ المركزية ورافض
للانصياع لها رغم جميع أشكال الممارسات اليومية من التلقين والتثبيت والترسيخ لها،
بحجة المعارضة للنظام والإرادة الباطلة. وهذا ما حصل خلال الحروب الدينية الدموية
التي عاشتها أوروبا في القرن السادس عشر، وانتهت بأجراء تسوية سياسية بين الأطراف
المتصارعة تقوم على الاعتراف بحق كل أمير حاكم أن يحدد ويفرض في آن واحد الدين
الرسمي لرعاياه، فالناس على دين أمرائهم كما تقول العبارة اللاتينية (cujus regio ejus religio). ليعمّ السلام فيما بعد
ولتسود بعض من حالة التسامح tolérance الديني.
من هنا، استطاعت المجتمعات الإنسانية أن تبلغ
مرحلة من التقدم الديمقراطي démocratique في النضال من اجل مبادئ
حقوق الإنسان وحرية الفكر والتعبير والدفاع عن الحريات الدينية والسياسية. وقد
دفعت مجمل تلك التحولات الخطابية بالمفكرين لا سيما في القرن العشرين إلى معارضة
الفلسفات الأحادية بالفلسفات ذات الطابع الفكري ألتعدديpluraliste الإبداعي. فتاريخ معاناة
المجتمعات الأوروبية الطويل تحت ماكينة رعب الأنظمة الشموليةtotalitarismes اليمينية منها
واليسارية، وممارسات القهر والإساءة الناتجة عن اجتماع الأيديولوجيات الأحادية مع
وسائل القسر والعنف لغرض فرضها بالقوة، كانت من أهم الأسباب التي أدت بالفلاسفة
والمفكرين إلى تطوير نظريات بأكملها حول مبادئ وأشكال الأنظمة الديمقراطية مثلت
فيما بعد مقدمة أولى في مشروع التأسيس لمختلف الأيديولوجيات التعددية المقبلة،
علاوة على جعلهم الفرد المادي الواقعي المحسوس concret نقطة الانطلاق في جميع
أبحاثهم وتحقيقاتهم investigations العلمية
والفلسفية.
ومن بين أبرز تلك الفلسفات والأكثر إثارة هي
"فلسفة القيّم والمعايير الأخلاقية التعددية" philosophie
morale pluraliste التي وضعها أستاذي الفيلسوف البلجيكي وعالم السوسيولوجيا والأخلاق
اويغن دوبريل Eugène Dupréel (1879-1967) وعرض لتطبيقاتها المتعلقة
منها بالمشاكل السياسية والاقتصادية في كتاب صغير ظهر بعد نهاية الحرب العالمية
الثانية بيوم واحد تحت عنوان: التعددية السوسيولوجية Le
Pluralisme Sociologique(1). فبدلا من معارضة الفرد مع المجتمع وكأنهما كيانين مستقلين
الواحد عن الآخر، شيَّد دوبريل مفهومه في علم السوسيولوجيا العامة sociologie générale على أساس الفكرة القائلة بالرابطة
الاجتماعية rapport social ((التي تحصل بين فردين
اثنين في اللحظة التي يكون فيها وجود l’existence أو نشاط l’activité الواحد منهما مؤثر
في سلوك أو في طبيعة الاستعدادات السايكولوجية للآخرde
l’autre états psychologiques، والتي ينتج عنها -وبشكل متوافق مع المعيار الاجتماعي العام normal- حالة من التأثير المتماثل
influence réciproque سواء كان ممكن الحدوث/
بالفعل actuelle أم لا زال في
الإمكان/بالقوة virtuelle))(2).
إن قابلية التأثير في الآخرين والتي تعد خاصية من
خواص الرابطة الاجتماعية، عادة ما تخدم الغاية المرجوة من ممارسات القسر contrainte أو الإقناع persuasion أو تبادل المنافع. والفرد
الذي يمتلك مثل تلك القدرة على التصرف بطريقة يؤثر بواسطتها على سلوك الآخرين
ومشاعرهم من خلال اعتماده على تلك الممارسات مجتمعة أو على واحدة منها، لابد وأن
يكون متوفرا بالضرورة على قوة دعم اجتماعية force
sociale قابلة للتحول والتبدل على الدوام وفقا لسياقات الروابط الاجتماعية
المتغيرة. وتتسم هذه الروابط بكونها ذات طبيعة شديدة التباين والتحول. فإذا توفرت
شروط الاتفاق والتوافق وروح التعاون accord
;consentement et de collaboration، تتشكل روابط اجتماعية ايجابية وفاعلة positifs. وتكون نافية وسلبية négatifs حينما تتأسس على روح
العداء والنزاع والمنافسة antagonisme,
une lutte, une concurrence. ففي الوقت الذي تعزز فيه كل رابطة اجتماعية ايجابية بطريقة ما أو
بأخرى قوة الدعم الاجتماعية لبقية الروابط الأخرى، تشكل الرابطة السلبية العامل
ألتدميري الذي يحرف تلك القوة عن مسارها. لكن، على الرغم مما تحمله تلك الروابط
الاجتماعية من علامات التعارض، إلا انه في إمكانها التعايش معا، تماما كما هو حاصل
في المنافسات الرياضية بين الأندية المشتركة في الاتحادات الرياضية الوطنية
والدولية. إذ أنه من الممكن أن تتداخل رابطتين اجتماعيتين تداخلا متفاعلا، عندما
يتألف كل منهما على عنصر مشترك يجمع بينهما. وفي هذه الحالة، ستشكل الواحدة من
هاتين الرابطتين شرطا مكملا وضامنا complémentaire لدوام فاعلية ممارسات
الرابطة الأخرى. فعلى سبيل المثال لا الحصر، الجهاز التشريعي/القاضي له سلطة على
الجهاز التنفيذي/الشرطي من شأنها أن تؤثر كذلك على المتهم، بعبارة أخرى، أن
الرابطة الأولى هنا تكون شرطا ضامنا لفاعلية الأخرى(3).
مع مفهوم الرابطة الاجتماعية الضامنة rapport social complémentaire استطاع دوبريل أن يحدد
تعريف مفهوم أساسي آخر وهو الفئة الاجتماعية groupe
social. حيث رأى إنها تعرّف بوصفها مجتمع société مصغر يتألف من عدد من
الأفراد المتحدين فيما بينهم والمتميزين عن الأفراد الآخرين بعدد من الروابط
الاجتماعية الضامنة والايجابية(4). تتوزع هذه الفئات الاجتماعية بين عائلية؛
مهنية؛ رياضية؛ قومية أو دينية... الخ، وتتباين الروابط الاجتماعية بينها بمقدار
تشابه طبيعة الفئات أو اختلافها. فمن المعروف أن الفئات المتطابقة الهوية تكون
منعزلة الواحدة منها عن الأخرى، ومنغلقة على أفرادها ولا تسمح بدخول عضو غريب
ينتمي إلى فئة اجتماعية مختلفة. هذه الأخيرة، على العكس تماما، تكون منفتحة على
ثقافات الفئات الأخرى رغم حالة اللاتجانس والاختلاف hétérogène الذي سيكون احد البواعث
الداعية إلى ممارسة ثقافة التكافل والتعايش symbiose السلمي. وهنا تأتي أهمية
مفهوم التعددية السوسيولوجية pluralisme
sociologique الناتجة عن الواقع التواصلي التفاعلي الذي يتيح لجميع الأفراد
بإمكانية الانتماء إلى فئات اجتماعية متعارضة من جهة ومتكافلة ومتعاونة من جهة
أخرى، والتمتع في الوقت نفسه بكافة حقوقهم في الحرية والاستقلالية autonomie. فما يميز الحياة الروحية
الإنسانية من ثراء إنما يعود في جزء كبير منه إلى الطريقة والكيفية التي اعتاد
الفرد على نهجها خلال ممارساته الثقافية اليومية في الحياة الاجتماعية ومع مختلف
الفئات الاجتماعية المتعايشة وفقا لمبادئ الحرية والمسؤولية والمتضامنة بإخلاص بين
بعضها البعض.
من هنا، يمكن القول أن مفهوم التعددية
السوسيولوجية ساهم وبشكل كبير في التأسيس لقراءات جديدة ومغايرة لمفاهيم مركزية في
علم القيّم والمعايير الأخلاقيةmorale ؛ والمرتبطة ارتباطا وثيقا
بالفرد كمفاهيم الحرية liberté والمسؤولية responsabilité. فنحن نعلم أن الإنسان
ومنذ ولادته، يشق وهو طفل صغير رحلة التربية والتلقين من قبل العائلة، ونراه يقلد
بصورة عفوية سلوكيات من يحيط به من أفراد أسرته. لحين وصوله إلى مرحلة تعلم مجمل
السلوكيات conduites المتلائمة مع العادات habitudes والقواعد règles الخاصة بالفئة التي ينتمي
لها، بواسطة ممارسات الأمر بهذا الفعل approbation والنهي عن الآخر désapprobation، ليصل الفرد إلى مرحلة
يتمكن فيها من التمييز بين السلوكيات المقبولة والمسموح به من المرفوضة والممنوعة.
يظهر من ذلك أن هناك منظومات قيّمية عديدة ومختلفة تؤثر على الأفراد والفئات
الاجتماعية بشكل كبير إلى الدرجة التي يمكننا القول فيها انه كلما كان المجتمع
متجانسا ومنعزلا isolée عن التأثيرات الخارجية،
كلما كان مجتمعا متطابقا conformiste وتقليديا traditionaliste للغاية. في حين كلما اتجه
المجتمع نحو ثقافة التنوع واحترام حق الفرد في الاندماج ضمن تعددية الفئات
الاجتماعية المتعايشة مع بعضها البعض، كلما أنتج ذلك بالضرورة صراعات ناجمة عن
وجود ما قد يبدو للفرد من حالة تعارض incompatibles بين قواعد المنظومة
القيّمية التي ينتمي لها وبين قواعد منظومات الفئات الأخرى التي يسعى للانضمام
إليها في آن واحد. وخير ما يعبر عن ذلك، هو مثال الفرد الذي ينتمي إلى فئة دينية
وفئة قومية في الوقت نفسه -هذا النوع من الخلط بين الانتماءات لم يعد موجودا إلى
حد ما مع صدور التشريعات والقوانين المدنية في البلدان المتقدمة- فماذا ينبغي عليه
أن يفعل إذا صدر قرار على المستوى القومي بوجوب الالتحاق بالخدمة العسكرية
الإلزامية، في حين أن الفئة الدينية التي ينتمي لها توصي بتحريم القتل وحمل السلاح
أيضا في أحيان أخرى؟ فأمام هذين الأمرين المتناقضين، ينبغي عليه أن يختار بين
تطبيق الأمر الأول والتصرف كمواطن صالح فيكون بذلك مخالفا لوصايا وتعاليم طائفته
الدينية، والعكس صحيح. وعادة ما يقع الفرد فريسة لمثل هكذا صراع، وهو ما يفسر لنا
سبب وقوع ما يسمى بحالة "احتجاج الوعي" l’objecteur
de conscience خلال الحرب العالمية الثانية، وهي تشير إلى رفض الفرد أداء الخدمة
العسكرية لكونه يعتبرها مخالفة للتعاليم الدينية والأخلاقية. فبدلا من أن يتطابق
الفرد مع أوامر هذه الفئة أو لتلك من التي ينتمي لها، نجده يحاول أن يتخذ موقفا
مختلفا بشأنها، يسعى فيه إلى عقد مقارنة comparer بين قواعد تلك الفئات
ليتمكن من الوصول إلى حكم juger أخلاقي فيها بالاستناد إلى
وجهات نظر تبتكر قيمة valeur جديدة تسمو وتتجاوز على
القواعد المعيارية convenances لمختلف الانتماءات الفئوية.
بهذه الطريقة، يجري تشكيل وتفعيل نماذج كلية idéaux universalistes مختلفة تماما، تؤسس
لمنظومة قيّمية أخلاقية وذهنية وجمالية يستند عليها المجتمع المنفتح société ouverte حسب اصطلاح الفيلسوف
الفرنسي هنري برغسون Bergson Henri(1859-1941). ومع هكذا نظام مجتمع -
وعلى النقيض من المجتمع المنغلق société
close- لا يمكن تحديد أو تصنيف الفرد وفق انتماءاته الفئوية،
والتقليل من فاعليته وقدراته الذاتية على التغيير والمشاركة في الحياة الاجتماعية.
لان الفرد في المجتمع المنفتح صار مبدعا للقيّم وعنصرا فاعلا في تغيير القوانين
وإصدار تشريعات جديدة، وأمسى أكثر صلابة consistance وقوة وثقة بإمكانياته
الذاتية. وتعتبر هذه التحولات الهامة التي وصل إليها الوعي الفردي على مستوى
الحرية والاستقلالية autonomie احد انجازات التعددية
السوسيولوجية التي عملت على تحرير الفرد من قيود الانتماءات الفئوية الهوياتية
المتطابقة. ومن ثمة، ليصبح في إمكانه، كما في حالة انتيجون Antigone في الميثولوجيا اليونانية،
أن يثور ضد نظام سلطة l’autorité يراه غير مقبول. ومن
الممكن أيضا أن يصبح الفرد في وضع حرج للغاية نتيجة لما يبذله من جهود لغرض القضاء
على حالة التعارض وعدم الانسجام بين المنظومات القيّمية التي ينتمي إليها من اجل
الحد من النزاعات التي يمكن أن تحدث بين الفئات الاجتماعية المتعايشة بسلام(5).
فكما تتأسس الحياة الاجتماعية على قاعدة الجهود
الفردية في سبيل المساهمة الفاعلة والتعاون المشترك collaboration، فهي تتألف أيضا من مجموعة
من الصراعات بين الأفراد والفئات التي تسعى إلى السيطرة domination وإخضاع الخصم hiérarchisation بل وفي أحيان أخرى
إلى إبادته l’anéantissement. وتاريخ الإنسانية حافل
بالعديد من الحقب الزمنية الطويلة التي سادت فيها الفوضى والعنف désordre et de violence، إلى أن وصل المجتمع
الإنساني إلى المرحلة التي تمكن فيها من إعداد وتطوير مؤسسة institution استثنائية في التنظيم
السياسي والتشريعي ألا وهي الدولة l’État التي ستتحول فيما بعد إلى
مؤسسة تحتكر وسائل استعمال القوة داخل حدود أراضيها، وينبغي على جميع الأفراد
التسليم بمبدأ الدفاع عن حقوقهم بقوة السلاح لرفع المظالم وتحقيق العدالة. ومنذ
نهاية العصور الوسطى Moyen Age، بدأت إرهاصات عملية تحول
هائلة في التشريعات الدستورية والقانونية لتحديد نظام عمل المؤسسات الأمنية في
الدولة ordre juridique étatique شملت المحاكم وجهاز الشرطة
والجيش، وشكلت فيما بعد احد أهم الركائز الأساسية في بناء النظام الدولي للأمن
العام l’ordre public international.
وفقا للمفهوم ألتعددي لا يمكن للدولة الفئوية/الأحادية أداء دورها بفاعلية تامة بوصفها الحافظ للنظام والحاكم حكما عادلا دون تمييز بين الأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة والمتعايشة بتناغم وانسجام على أراضيها. وحتى عندما عزز المفهوم الليبرالي libérale للدولة من دورها كمؤسسة تعمل على حفظ الأمن والنظام مؤكدا على عدم قدرة الأفراد والفئات على انجاز المسؤوليات المناطة بهم على وجه أكمل، لم تنجح الدولة المحتكرة monopole للقوة الأمنية والعسكرية في ألحفاظ على امن مواطنيها، طالما كانت دولة تعبر عن انتماء فئوي هوياتي محدد وتراعي مراعاة مطلقة مصالح هذه الجماعة وتطلعاتها دون أن تأخذ بعين الاعتبار باقي الفئات الاجتماعية الأخرى. وبالطبع، حينما تتبنى هذه الدولة/الفئة المتنفّذة معتقدا دينيا أو أيديولوجيا معينة idéologie، وتمسك بزمام السلطة الاقتصادية pouvoir économique، فستأخذ بالتحول تدريجيا إلى فئة استبدادية/شمولية totalitaire لا تسمح بوجود فئات مستقلة عنها أو بأفراد معارضين لنظامها؛ وتُلزم أفرادها بالاعتراف بأشكال الحقائق vérités المفروضة عليهم والمسموح بتداولها بينهم وكذلك بصور المثل العليا التي ينبغي عليهم الخضوع لها، والتي يقع في مقدمتها صور تمجيد وتأليه شخصية زعيم/قائد الدولة chef –إن لم يكن مقارنة شخصه بالصفات الربانية في حفظ العالم ورعايته والعلم بالغيب providentiel et omniscient- واعتبار كل ما يصدر عنه من الأفعال والكلام معصوم من الخطأ تماما.
وفقا للمفهوم ألتعددي لا يمكن للدولة الفئوية/الأحادية أداء دورها بفاعلية تامة بوصفها الحافظ للنظام والحاكم حكما عادلا دون تمييز بين الأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة والمتعايشة بتناغم وانسجام على أراضيها. وحتى عندما عزز المفهوم الليبرالي libérale للدولة من دورها كمؤسسة تعمل على حفظ الأمن والنظام مؤكدا على عدم قدرة الأفراد والفئات على انجاز المسؤوليات المناطة بهم على وجه أكمل، لم تنجح الدولة المحتكرة monopole للقوة الأمنية والعسكرية في ألحفاظ على امن مواطنيها، طالما كانت دولة تعبر عن انتماء فئوي هوياتي محدد وتراعي مراعاة مطلقة مصالح هذه الجماعة وتطلعاتها دون أن تأخذ بعين الاعتبار باقي الفئات الاجتماعية الأخرى. وبالطبع، حينما تتبنى هذه الدولة/الفئة المتنفّذة معتقدا دينيا أو أيديولوجيا معينة idéologie، وتمسك بزمام السلطة الاقتصادية pouvoir économique، فستأخذ بالتحول تدريجيا إلى فئة استبدادية/شمولية totalitaire لا تسمح بوجود فئات مستقلة عنها أو بأفراد معارضين لنظامها؛ وتُلزم أفرادها بالاعتراف بأشكال الحقائق vérités المفروضة عليهم والمسموح بتداولها بينهم وكذلك بصور المثل العليا التي ينبغي عليهم الخضوع لها، والتي يقع في مقدمتها صور تمجيد وتأليه شخصية زعيم/قائد الدولة chef –إن لم يكن مقارنة شخصه بالصفات الربانية في حفظ العالم ورعايته والعلم بالغيب providentiel et omniscient- واعتبار كل ما يصدر عنه من الأفعال والكلام معصوم من الخطأ تماما.
ومن البديهي أن تتلازم مع هذا الشكل من أشكال
الأحادية monisme الذي يجعل من زعيم الدولة
المصدر الوحيد الضامن لشرعية الحقيقة وجميع القيّم valeurs، شروط قمع الحريات وازدراء
تام لحقوق الإنسان mépris des droits de l’homme، إضافة إلى اضطهاد persécution لكل الفئات الاجتماعية
التي تسعى نحو تحقيق وجود مستقل عن إرادة الزعيم/الدولة. إذ ينبغي أن تكون جميع
الطموحات والتطلعات الإنسانية سواء كانت قومية أم دينية؛ علمية أم فنية واقتصادية
أم رياضية في خدمة إرادة الدولة المركزية pouvoir
central وما عداها يستحيل أن يكون موضع ترحيب بل ولا يستحق الدعم أو
التشجيع. بعبارة أخرى، ستتحول جميعها إلى أدوات خاضعة لمبدأ قيّمي أحادي جوهري la valeur primordiale يشتغل في خدمة معيار
المعايير الأوحد والمطلق critère في تسيير جميع أمور الدولة
الشمولية l’État totalitaire. ويجري تحديد وتشريع آلية
تطبيق وتنفيذ هذا المعيار من قبل النخبة الاستبدادية الحاكمة ووكلائها في السلطة
الذين يتفرعون منها. من هنا، يمكن القول أن النزعة الأحادية في تشكيل القيّم تمثل
المرتكز الأساسي في عملية دعم وتثبيت الترسانة الأيديولوجية l’arsenal
idéologique للسلطة المركزية في الدولة الشمولية. وهذا ما يستلزم ضبط ومراقبة
آليات عمل وسائل التواصل moyens
de communication ، نتيجة لذلك غالبا ما تكون الدولة محتكِرة لجميع تلك الوسائل من
اجل أن تتمكن من التحكم المطلق بقوة الدعم الاجتماعية force
sociale التي جئنا على تحليل مفهومها في أعلاه. وفق هذا النظام سيجري
اعتبار أي شكل من أشكال المعارضة بوصفه ثورة ضد الحكم، ومن ثمة، لا يكون أمامها
غير اللجوء إلى القوة المنظمة داخل الدولة أو خارجها.
وعلى النقيض من الدولة الأحادية l’État moniste، تتأسس الدولة التعددية l’État pluraliste على مبدأ احترام الحريات وحقوق
الأفراد والفئات المختلفة التي قد تتعاون أو تتعارض في كثير من الأحيان. وتعترف
بأن سياسياتها هذه تنطوي على كثير من النتائج السلبية وقد ينجم عنها حالات من
الفوضى والاضطراب، لكنها تؤكد على أن دور الدولة لا يكون في قمع الحريات وإنما في
السعي من اجل تعديل نسبة التجاوزات الفردية التي قد تؤدي إلى إلحاق الضرر البالغ
بالآخرين. نتيجة لذلك، ترفض الدولة الأحادية رفضا قاطعا فكرة النظام الكامل ordre parfait والتأسيس له بواسطة معيار
واحد، لأنها تعترف بوجود تعددي لمنظومات قيّمية غير متوافقة يحتاج بالضرورة إلى
إجراء حوار dialogue متواصل لمقاربة وجهات
النظر المتعارضة لغرض الوصول إلى تسوية compromis مناسبة ومعقولة raisonnable. وتمثل مظاهر/شروط الحياة
الاجتماعية والسياسية في المجتمع الديمقراطي خاصة المتعلقة منها بحريات الفكر
والصحافة؛ وتشكيل الجمعيات والانتساب إليها، شكلا معروفا من أشكال التعددية
السوسيولوجية. ومن الطبيعي للغاية أن تقود كل واحدة من هذه الحريات إلى إساءة أو
انتهاك لحريات وحقوق الآخرين. وهنا تأتي أهمية دور السلطة التشريعية législateur ومحاكم العدل tribunaux وفلسفة القانون jurisprudence في إرساء وحفظ دعائم الاستقرار
équilibre السريعة الزوال بين مختلف
دعاوى الحقوق المشروعة، حيث يكون الأمر متعلقا برجل القانون الذي يقوم بالبحث في
كل حالة من حالات الدعاوى المطروحة للنقاش والمداولة القانونية عن حل مقبول ومناسب
ومعقول ومنصف équitable في آن واحد، لكونه يسعى
إلى تحقيق نوع من التوازن والاستقرار(6). إلا إنه من غير الممكن تماما التعبير عن
تلك الحلول بواسطة لغة الحساب الرياضية القابلة للقياس quantifiables، لأن الجهاز ألمفاهيمي
المعتمد في علم القانون هو نتاج مقارنات تاريخية بين عناصر غير متوافقة لمسائل
تتعلق بحقوق الأفراد والفئات الاجتماعية؛ آليات عمل المؤسسات؛ المصلحة العامة؛
المساواة والمنفعة الاجتماعية؛ الدفاع عن حقوق أصحاب الدخل المحدود والمعوزين
والمسنين والمرضى. فكلما كان النظام القانوني للدولة ملتزم تجاه هذه القضايا واضعا
في الاعتبار الآثار المترتبة على الصراع الراهن بين احترام الموروث التقليدي
والمخاوف المتزايدة تجاه الابتكارات العلمية الجديدة والتقدم الاجتماعي
والتكنولوجي، كلما اكتسب قاعدة من الثقة الاجتماعية المستندة في الأصل على ما قد
يبدو صحيحا prévisibilité ومناسبا لسياقهم الخاص
وليس على ما هو قطعي وجازم وغير تاريخي بالضرورة.
وبهذه الطريقة، لا يمكن لمفهوم التعددية أن يتسع
لقواعد دقيقة précises قابلة للقياس وذلك لأنها
قواعد تفترض عملية اختزال réduction لظواهر قيّمية ولتهميش
أخرى غيرها لحساب قيّم محددة وذلك بهدف التخلص من عنصر اللاتجانس l’hétérogène وفرض حالة من النسقية
والتطابق l’homogène القسرية. بل هو مفهوم يقوم
على مبدأ احترام مظاهر التنوع diversité الثقافي والذي يفترض البحث
المستمر عن حلول جديدة ملائمة للقضايا الإنسانية التي يتعرض أدق وابسط مكون من
مكوناتها التاريخية إلى التبدل بين سياق وآخر، إلى الدرجة التي يقتضي فيها أن يكون
رجل القانون على درجة عالية من الانتباه والعناية والحساسية تجاه مختلف التحولات
القيّمية والظروف المؤثرة على الحالة موضوع البحث والدراسة. فعلى سبيل المثال لا
الحصر، عندما يقوم قاضي السلطة التقديرية pouvoir
d’appréciation بوظيفته المتمثلة في استخراج القاعدة القانونية الواجبة التطبيق
والتنفيذ من اجل حل النزاع في الدعوى المعروضة عليه، ينبغي عليه أن يحكم فيها ليس
بالاستناد إلى رؤيته الذاتيةvision
subjective وإنما في محاولته أن يعكس رؤية مشتركة تجمع بين رؤية النخبة
المستنيرة من المجتمع الذي يعيش فيه وبين الآراء والتقاليد القانونية المسيطِرة في
مكان عمله. في الواقع، إن القاضي الذي يعتبر مسؤولا عن الفصل في مثل هكذا نوع من
الدعاوى، ينبغي عليه أن يسعى حثيثا من اجل الوصول إلى أحكام قضائية تكون مقبولة
لكل من: المحاكم العليا؛ الرأي العام المستنير –خاصة عندما يتعلق الأمر بالأحكام
الصادرة عن محكمة النقض Cour de cassation – وكذلك من قبل السلطة
التشريعية التي من المؤكد أنها ستتخذ الإجراءات اللازمة على الفور عندما تبدو
بالنسبة إليها قرارات المحكمة العليا Cour
suprême غير مقبولة(7).
وعلى الرغم من أن توافق الأحكام القضائية الصادرة
عن السلطة التقديرية مع أنظمة كل من: السلطة التشريعيةpouvoir
judiciaire والسلطة التنفيذية pouvoir
exécutif أيضا، يعني أن لدى هذه السلطة المختصة الحق في الاختيار بين سلسلة
هرمية من السلطات القانونية. إلا إنه تبقى ثمة حدود قانونية ينبغي على السلطة
التقديرية أن لا تتجاوزها، ففي كل مرة تبدو أحكامها الصادرة غير معقولة déraisonnable وغير مناسبة، يجري
اعتبارها بمثابة إساءة استعمال للسلطة لا يمكن التسامح معها أو السكوت عنها.
ونلاحظ في هذا الصدد أن التقييمات المتعلقة بما هو معقول raisonnable وغير معقول في مرحلة زمنية
من مراحل تطور مجتمع معين، لا يمكن أن تكون كذلك في مجتمع آخر أو في حقبة تاريخية
أخرى. ولنأخذ على سبيل المثال، الحكم الصادر عن محكمة النقض البلجيكية في رفض
الدعوى المرفوعة في 11 من نوفمبر لعام 1889والمتعلقة بالسماح للمرأة في مزاولة مهنة
المحاماة. حيث قامت برفع هذه الدعوى امرأة بلجيكية كانت قد استوفت جميع الشروط
المنصوص عليها في القانون، والتي تؤهلها للمطالبة بحقها في الانتساب كعضو في نقابة
المحامين، واستندت في ذلك على أن المادة رقم 6 من الدستور البلجيكي التي تؤكد على
مساواة جميع المواطنين البلجيك أمام القانون، مشيرة إلى عدم وجود نص قانوني يحظر
بشكل واضح وصريح عمل المحاماة على المرأة. وتجاه مثل هذه القضية الأولى من نوعها
في تاريخ بلجيكا، ردت محكمة النقض بالقول: ((إن لم تأتِ أحكام السلطة التشريعية
على الإعلان بشكل صريح عن عدم توفر المرأة على الكفاءة والأهليّة القانونية
الكافية لممارسة مهنة المحاماة، فذلك لأنها كانت ترى في ذلك بديهية axiome واضحة لدرجة كبيرة وكافية
لجعلها تكتفي بالإعلان عن أن مهنة القانون مخصصة للرجل فحسب)). فإذا جرى النظر إلى
هذا القول الفصل على أنه بديهيا لما يقرب قرن من الزمن، فأصبح من غير المعقول
ومثير للسخرية أيضا اعتباره كذلك حتى اليوم. لهذا، وجب الانتظار حتى يوم 7 من
ابريل عام 1922 حيث نجحت فيه السلطة التشريعية البلجيكية من استبعاد جميع الأسباب
الواردة في الحكم الصادر في عام 1889 والسماح للمرأة بمزاولة مهنة المحاماة(8).
من هنا، يمكننا القول أن نظام القانون le droit بوصفه تعبير عن
الإرادة الوطنية الموحدة، يمثل إذن عملا جماعيا œuvre
collective مشتركا يتأسس على مجمل الأعراف والعادات coutume والتقاليد والمبادئ العامة
والمتطورة على مر العصور، والتي من الممكن أن تكون موضع إعادة قراءة وتأويل interprétés وصياغة قانونيةêtre formulés تختلف باختلاف الأنظمة systèmes التي تتشكل من خلالها.
وغالبا ما يكون هذا الصرح القانوني من نتاج الهيئة التشريعية، وينبغي أن تعمل
الأنظمة الديمقراطية régimes démocratiques على ضمان تطبيق هذا النظام
من قبل مجموعة من القضاة الأكفاء والمستقلين عن السلطة التنفيذية، على أن تتوفر
هيئة الدفاع عن الدعاوى القانونية أمام هيئة القضاء على محامين juristes أكفاء إلى حد كبير وذلك من
اجل الوصول إلى حالة من التوافق بين الطرفين في تقديم تفسير معقول للقواعد
القانونية وتطبيق الحكم القانوني الملائم كل حسب وقائع الدعوى المعروضة عليهم.
لهذا، يجري في معظم الأحيان تخصيص محكمة خاصة للقضايا الهامة تكون مؤلفة من عدة
قضاة magistrats بدل قاض واحد، إضافة إلى
هيئة عامة من المحلفين jury populaire. لأنه في مثل هذا النوع من
القضايا المعقدة قد يحصل الكثير من حالات النقض والاستئناف بطريقة تستلزم من
القاضي مراجعة وفحص وتدقيق الحكم القانوني لمرات عديدة قبل اكتسابه السلطة l’autorité في إصداره وتنفيذه.
بالطبع أننا لا يمكن أن نجد مثل هكذا حشد كبير من
الإجراءات والمراجعات والتدابير الاحتياطية précautions في العلوم الرياضية
والطبيعية les sciences mathématiques et naturelles. وذلك يعود إلى ما تتميز
به مناهج الاستنباطles méthodes de raisonnement المعتمدة في علوم القانون
من خاصية التعددية التي تتجاوز في العادة منهج الملاحظة البسيطة أو العمليات
الحسابية المعروفة. ومفهوم التعددية كما يظهر في علوم السياسة والقانون وعلم
القيّم والمعايير الأخلاقية لا ينفصل إطلاقا عن مفهوم التعددية المنهجية pluralisme méthodologique الذي يتوافق مع تعددية
طبيعة موضوعات تلك العلوم. وقد أشار الفيلسوف اليوناني أرسطو Aristote (384-322 ق.م) إلى ذلك في فقرة
مشهورة من كتابه "علم الأخلاق إلى نيقوماخوس" l’Éthique
à Nicomaque : ((ينبغي علينا أن لا نفترض الدقة أو الصرامة rigueur نفسها في جميع أنواع
الاستنباط، ليس بأكثر مما نفترضه في جميع الأشياء المصنوعة يدويا ... وسيكون من
العبث أيضا التصديق باستنباط احتمالي raisonnement
probable من قبل عالم الرياضيات ومطالبة الخطيب العام بتقديم البراهين démonstrations ... فالنجار وعالم الهندسة
مثلا يبحثان عن الزاوية القائمة l’angle
droit ولكن ليس بالطريقة نفسها : فالأول يسعى للعثور على الزاوية التي
تكون قائمة بالقدر الذي ينتفع منه في عمله، أما الثاني فهو يبحث عن الجوهر l’essence أو الخاصية المحددة التي
نميز بواسطتها الزاوية القائمة، وذلك لأنه عالم متأمل contemplateur في تحديد ما هو صادق
ومتطابق مع الحقيقة vrai )) (الكتاب الأول،b1094).
من هنا، جاء تأكيد أرسطو مؤسس المنطق الشكلاني logique formelle على مسألة في غاية الأهمية
وهي أنه إلى جانب وجود الاستنباط التحليلي raisonnements
analytiques الذي يقوم على تقنيات الاستدلال ألبرهاني المستعملة في إثبات صدق
أو خطأ القضايا في العلوم الرياضية، ينبغي علينا الاعتراف أيضا بوجود الاستنباط
الديالكتيكي raisonnements dialectiques الذي يقوم على تقنيات techniques الخطاب ألحجاج ألإقناعي
المستعملة في مختلف أشكال الحوار dialogue والجدال controverse وفي جميع القضايا العملية
المتعلقة بعلوم الأخلاق والسياسة والتي نسعى فيها إلى إقناع persuader المخاطَب. وقد قام أرسطو
بدراسة وفحص هذه الأشكال formes من الاستنباط في كتابه
الشهير "البلاغة" Rhétorique، وافتخر بكونه أول من عرض
لتقنيات الجدال في كتابه "الطوبيقا" Topiques.
في الواقع، إن الأسباب التي نقدمها لصالح أو ضد
القضية المطروحة للجدال خاصة عندما يتعلق الأمر بالنقاش أو التحاور délibérer وبالتقييم أو الحكم juger؛ بالاختيار choisir أو اتخاذ قرار معين décider، لا يمكن أن تتألف من أدلة
برهانية preuves démonstratives تستند إلى مقدمات صادقة
لتنتهي إلى نتائج صادقة بالضرورة، وإنما تتألف من مجموعة من الحجج arguments التي تتسم في كونها تتوفر
على درجات متفاوتة من عوامل القوة forts والتناسب pertinents والتثبت المنطقي العقلاني convaincants كل حسب سياقه. وهذا يعود
في احد أهم أسبابه إلى أن هذه الحجج لا تهدف إلى البرهنة على حقيقة قضية منطقية vérité d’une proposition، بل إلى إقناع مخاطَب
بعينه أو جمهور من المخاطَبين ورفع نسب تأييدهم l’adhésion إلى القضية موضوع النقاش
وتحقيق اتفاق عام. وبالطبع، ما قد يبدو حجة مقنعة بالنسبة لأحد من ذلك الجمهور l’auditoire، قد لا يكون كذلك بالنسبة
لغيره من المخاطَبين. نتيجة لذلك، ينبغي أن يتوفر الخطاب discours على التقنيات ألحجاجية
الإقناعية البلاغية التي تتوجه بالسؤال في المقام الأول ليس إلى حقيقة الحجج
العقلانية وإنما إلى السبب في تأييد مخاطب بعينه لتلك الحجج، وذلك لأن الخطاب
ألحجاجي، كما ذكرنا سابقا، لا يبحث عن الحقيقة وإنما يسعى نحو إحداث تغيير في
القناعات العامة المطلقة نحو الكثير من القضايا، والذي يعقبه بالضرورة تحول
قيّمي/لغوي/لساني وثقافي. عند ذلك الحين، يمكن أن يكون ذلك الخطاب خطابا
متوافقا ومتكيفا مع جمهور المخاطَبين. أما إذا حصل العكس، ولم يلتزم الخطيب/المتكلم
L’orateur بهذه القاعدة الأساسية
فانه سيقترف بذلك الخطأ الأكثر فداحة في الحجاج argumentation -وليس في المنطق الشكلاني
كما هو متآلف عليه خطأ- والمتمثل في مصادرة ما هو مصادق عليه مبدئيا pétition de principe(9).
وعلى النقيض من الخطاب ألحجاجي البلاغي يقع خطاب
الفلاسفة الأحادي moniste الذي يسعى على الدوام إلى
الحدّ من التعددية في الآراء العامة المختلفة بواسطة فرض انموذج وحدة l’unicité الحقيقة. ومن اجل تحقيق
هذه الغاية المنشودة، كان ينبغي عليهم ابتكار مصدر متعال يتمثل في العقل الإلهي raison divine الذي أصبح هو الضامن
لمعايير الدقة والصدق لتلك الحقيقة. أما العقل الإنساني raison
humaine فلا يمكن له أن يمثل سوى انعكاس بسيط له. ولا تقتصر إمكانية العقل
الإلهي الثابت والأبدي éternelle et invariable على تمييز مبدأ الوضوح في
ذاته l’évidence لبعض من القضايا فحسب، بل
ويمنحها على الدوام خاصية الصدق المطلق والمفروض الاعتراف بصلاحيته اللامتناهية
على كل إنسان عاقل. وهكذا اعتبر الفلاسفة العقلانيون rationalistes أمثال الفيلسوف الفرنسي
رينيه ديكارت René Descartes (1596-1650) والفيلسوف الهولندي باروخ
سبينوزا أن مناهج علوم الهندسة الرياضية التي تستند على الحدس والبرهان intuition et démonstration ، هي المناهج التي تصلح في
أن تكون بمثابة الأنموذج modèle في حل جميع المشاكل
الإنسانية، فالقواعد الصالحة règles
valables في العلوم الرياضية صالحة كذلك في جميع المجالات. لكن من اجل
العثور على الحل المناسب في جميع الحالات، ينبغي قبل كل شيء تطهير العقل من كافة
أشكال الانفعالات والأهواء passions والمشاعر émotions والخيال imagination والمصالح الشخصية ومن جميع
الأحكام المسبقة préjugés التي عادة ما تمنع دون
إمكانية التفلسف عند الإنسان.
وكما نعلم، أن الوصول إلى مثل تلك الغاية الفلسفية والمتمثلة في فرض تداول communier مجموعة من الحقائق العقلانية المحددة والمطلقة، يتطلب من الإنسان أن يطهر عقله وعلى حد سواء من الاعتقادات اليقينية الشخصية convictions والمعتقدات الدينية croyances والانفصال عن مؤثرات التاريخ والتقاليد والثقافةl’histoire, traditions et culture واستبعادها جميعا بوصفها أحكام مسبقة أيضا تعيق العقل الإنساني عن التواصل مع/وعبر تلك الحقائق المفروضة. وحسب هذا التصور، سنكون في العالم اليوتوبي l’utopie للمجتمع الكوني/الكلي société universelle المؤسس على مفهوم العقل raison /المثال idéalاحد أهم الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية Révolution française. لكن نحن ندرك تماما في نفس الوقت أن هذا المثال في الإخاء الكوني/الكلي fraternité universelle كان مقدمة لكل الحروب الثورية والحروب النابليونية –نسبة إلى حاكم فرنسا وقائدها العسكري نابليون بونابرت–. بل وكان من بين الأعمال الإنسانية التي عملت وبشكل كبير على تثبيت وترسيخ تلك الروح العقلانية الغربية. أليس من المعروف اليوم أن نظام القانون المدني لنابليون Code Napoléon لم يكن سوى تجسيد للايديولوجيا البرجوازية l’incarnation de l’idéologie bourgeoise منذ مطلع القرن التاسع عشر.
وكما نعلم، أن الوصول إلى مثل تلك الغاية الفلسفية والمتمثلة في فرض تداول communier مجموعة من الحقائق العقلانية المحددة والمطلقة، يتطلب من الإنسان أن يطهر عقله وعلى حد سواء من الاعتقادات اليقينية الشخصية convictions والمعتقدات الدينية croyances والانفصال عن مؤثرات التاريخ والتقاليد والثقافةl’histoire, traditions et culture واستبعادها جميعا بوصفها أحكام مسبقة أيضا تعيق العقل الإنساني عن التواصل مع/وعبر تلك الحقائق المفروضة. وحسب هذا التصور، سنكون في العالم اليوتوبي l’utopie للمجتمع الكوني/الكلي société universelle المؤسس على مفهوم العقل raison /المثال idéalاحد أهم الشعارات التي رفعتها الثورة الفرنسية Révolution française. لكن نحن ندرك تماما في نفس الوقت أن هذا المثال في الإخاء الكوني/الكلي fraternité universelle كان مقدمة لكل الحروب الثورية والحروب النابليونية –نسبة إلى حاكم فرنسا وقائدها العسكري نابليون بونابرت–. بل وكان من بين الأعمال الإنسانية التي عملت وبشكل كبير على تثبيت وترسيخ تلك الروح العقلانية الغربية. أليس من المعروف اليوم أن نظام القانون المدني لنابليون Code Napoléon لم يكن سوى تجسيد للايديولوجيا البرجوازية l’incarnation de l’idéologie bourgeoise منذ مطلع القرن التاسع عشر.
وعلى النقيض من خطاب الفلسفة الأحادية، سنشهد مع
خطاب الفلسفة التعددية philosophie pluraliste تحولا جذريا في المنظومة
الأحادية لمفاهيم رئيسية كمفاهيم الحقيقة والعقل والعقلانية؟ وهذا ما سيتضح أكثر
مع فكرة الحقيقة بوصفها معيار norme للرأي العام، فسوف لن يعود
في الإمكان لها أن تؤدي هذا الدور إلا وفق الشروط التي تحددها تقنيات المراقبة
والفحص techniques de contrôle et de vérification لآليات طرق استعمالها
وتداولها بالشكل الفعّال الذي لا يسمح إطلاقا بفرض أيديولوجيات حتمية لا يرقى
إليها الشك idéologies incontestables تحت مسمى الحقيقة المطلقة.
أما فيما يخص مفهوم العقل، فسوف لن يكون في الإمكان تمييزه بصفات الأبدية والثبات
المشتركة بين البشرية جمعاء، وعزله عن الصفات والقدرات facultés الإنسانية الأخرى فضلا عن التاريخ
l’histoire. وإنما سيحدد بوصفه المثال
لما هو كلي idéal d’universalité والابتكار الخاص بالفلسفة
الغربية أيضا. أما الدعوة الخاصة بالتقليد الفلسفي منذ العصر اليوناني القديم حول
تأسيس نظام عقلاني يستند على تقنيات الخطاب ألحجاجي الاقناعي في الحوار
والنقاش، فينبغي قراءتها على أنها دعوة إلى إعادة الاعتبار إلى المخاطَب العام
الذي لطالما جرى تهميشه واستبعاده تحت ذريعة تصنيفات تراتبية وهرمية حكمت عليه أن
لا يرقى إلى أن يكون عضوا من أعضاء الجمهور الكوني/الكلي auditoire
universel أي إلى انموذج المخاطَب النخبوي المثالي. ولطالما تلازمت هذه
الغاية المستحيلة التحقق عند الفلاسفة والمتمثلة في التوصل بهذا الأنموذج من
الجمهور المثالي auditoire idéal إلى مرحلة التثبت العقلاني
والمنطقي convaincre المتكامل، تلازما وثيقا مع
شرط التخلي عن تقنيات الإقناع persuasion والحجج arguments التي لا يتمكن بدونها حتى
الخطيب نفسه الذي يبحث عن تحقيق ذلك التثبت العقلاني والمنطقي بواسطة خطابه
وكتاباته، من كسب تأييد l’adhésion مثل ذلك النوع من الجمهور.
ومع العقلانية الكلاسيكية لاسيما النظام الفلسفي العقلاني للفيلسوف الألماني
إيمانويل كانت Emmanuel Kant (1724-1804)، كانت المناشدة الدائمة
للاحتكام إلى العقل في القضايا التي تدعو إلى الجدال تعني -حسب رأي كانت- الخضوع
إلى الأحكام المفروضة على الفعل الأخلاقي l’action
morale وكذلك إلى التطابق مع مقولة الواجب المطلق l’impératif
catégorique التي تلجأ إلى استعمال الحجج المعترف بصلاحيتها بشكل قطعي وكلي universellement. غير أننا مع نظام
التعددية الفلسفية pluralisme philosophique سنشهد عملية تحرر لمفهوم
العقل من قيود العقلانية الكلاسيكية التي كانت تحبسه ضمن دائرة تقنيات الاستدلال
المستعملة من قبل علماء الرياضيات، حيث سيكون لكل فيلسوف الحرية في اختيار الطريقة
التي يقوم بواسطتها بتشكيل وتطوير تصوره المثالي الخاص عن العقلانية idéal de rationalité والمتوافق مع سياقات ما هو
مقبول acceptable لدى الجمهور
الكوني/الكلي(10). شرط أن تخضع هذه الفكرة أو هذا المثال العقلاني وباستمرار
لمعيار التجربة l’expérience أي للحوار dialogue.
وفي الوقت الذي نلاحظ فيه أن تمركز خطاب النزعة
العقلانية الأحادية rationalisme moniste حول مبدأ الوضوح في ذاته l’évidence نجم عنه استبعاد وإقصاء كل
مخاطب لا يشترك مع الآخرين بنفس المبادئ الأولى الواضحة في ذاتها، ومن ثمة، إلى
الانتقال ألقسري والحتمي المباشر من مقدمة "تأييد مخاطَب بعينه" إلى
نتيجة "تعميم هذا التأييد على المخاطَبين الآخرين". نجد على العكس من
ذلك أن الخطاب ألحجاجي الاقناعي لا يمكن أن يكون خطابا قسريا contraignante، والفيلسوف الذي يتبنى
الخطاب ألتعددي يعترف بالضرورة أن أشكال الحجاج argumentations المتعددة والمختلفة قادرة
على التوافق والتكيف مع كافة المفاهيم conceptions المتغيرة والمتحولة عند
الجمهور الكوني/الكلي. وبدلا من محاولة فرض الزعم القائل بوجود حقيقة أبديةvérité éternelle، سيكتفي الفيلسوف ألتعددي philosophe pluraliste بعرض رؤيته vision حول الإنسان والمجتمع
والعالم monde الذي يبدو بالنسبة إليه
معقول raisonnable بما يكفي كي يكون قادرا
بواسطة خطابه ألحجاجي الاقناعي من الاستمرار في سعيه نحو تحقيق تأييد المخاطَبين
وذلك النوع من الجمهور الكوني/الكلي. هذا المسعى ليس سوى محاولة غير كاملة essai imparfait لكنها قابلة للتطوير perfectible على الدوام من خلال الآراء
العامة وتطلعات المجتمع حيث يعيش الفيلسوف، وبالمقدار الذي يعتقد فيه بأنها قابلة
لأن تكون نماذج كلية universalisables في تطور باستمرار بواسطة
وسائل الحوار والجدال le dialogue et la controverse (11).
أن نحاول إبقاء باب الحوار مفتوحا على الدوام،
وتعزيز مفهوم المجتمع المفتوح على إمكانية مشاركة الجميع فيه وأن لا يكون مقتصرا
على فئة بعينها. فهذا بالضبط ما تحاول التعددية الفلسفية pluralisme
philosophique أن تعمل على التأسيس له في مجتمع تُراعى فيه حقوق الإنسان droits de l’homme(12). وذلك لأن التعددية
الفلسفية تنطلق من الإنسان المادي الملموس concret والملتزم تجاه علاقاته مع
مختلف الفئات الاجتماعية المتعددة الاتجاهات والانتماءات. وترفض رفضا قاطعا منح أي
فرد أو جماعة وتحت أي مسمى ذلك الامتياز privilège في تحديد معيار استثنائي l’unique critère لما هو صالح ولما هو مناسب
valable et opportun. هذا الامتياز الذي لم
ينجم عنه سوى قمع opprimer الحريات الفردية والتضييق étouffer على الفئات الاجتماعية
المختلفة، لم يجلب لنا بالضرورة سوى المغالاة والتطرف démesure والنزعة الشمولية totalitarisme. من هنا، تدعونا التعددية
الفلسفية إلى البحث عن أكثر الحلول معقولية وملائمة وصلابة أمام جميع النزاعات
المتكررة بصورة حتمية. وحينما يمثل هذا الحل علامة لما هو معقول raisonnable فسوف لن تدعي التعددية
الفلسفية بذلك أبدا أنه يشكل الحل الكامل والفريد من نوعه والنهائي، وإنما ما تسعى
إليه هو عرض حلول إنسانية مقبولة -قابلة للإصلاح وللتطوير على حد سواء- للمشاكل
المتجددة بطريقة تدعو على الدوام إلى طرح سؤال إمكانية التعايش السلمي coexistence بين الفئات الاجتماعية
المختلفة التي تفضل تحقيق تسوية عادلة على الخضوع لحالة من القسر المفروض دون رحمة
أو هوادة تحت مسمى الولاء لقيمة استثنائية valeur
unique مهما كانت درجة أهميتها وتفوقها المطلق على جميع القيّم الأخرى.
مسردالمصطلحات(للمترجمة):
- اويغن دوبريل Eugène Dupréel (1879-1967): فيلسوف وسوسيولوجي وعالم في الأخلاق، يعد من كبار الفلاسفة البلجيكيين في النصف الأول من القرن العشرين ومن الذين اثروا تأثيرا كبيرا على تلميذه الفيلسوف شاييم بيرلمان. ومن أهم المؤسسين لمدرسة بروكسل المعروفة على صعيد الفلسفة وعلم القانون وفي التعددية المنهجية والتداخل بين العلوم. يعتبر أول من أعاد الاعتبار إلى الفكر الفلسفي السفسطائي الذي لطالما جرى نقده وإقصاءه وتهميشه وذلك من خلال مؤلفيه المعروفين: الأول Les Sophistes. Protagoras, Gorgias, Prodicus, Hippias ؛ والثاني La Légende socratique et les sources de Platon. وكان للفكر السفسطائي تأثيرا واضحا على أطروحاته الراديكالية حول فلسفته التعددية التي تقع على النقيض من النزعة الأحادية بكافة صورها وأشكالها.
- الأحاديmonisme تعود إلى الكلمة اليونانية monos وتعني أحادي أو وحيد unique et seul. وتطلق على كل نظام فلسفي يختزل جميع الأشياء الموجودة ويرجعها إلى مبدأ واحد، سواء كان إلى نفس المادة أو إلى القانون المنطقي أو الفيزيقي الذي تعمل تحت تأثير منه أو إلى معيار أخلاقي واحد.
- التعددية pluralisme تعود إلى الكلمة اليونانية pluralis وتعني الكثرة والتعدد plusieurs et multipl. وتطلق على كل منهج فلسفي يعترف بصور التعددية وأشكالها المختلفة بدء من المفاهيم والمقولات والأسلوبيات اللغوية حتى المعايير الأخلاقية والممارسات الاجتماعية والآراء العامة.
- الحس المشترك sens commun يطلق على مجمل الأفكار والمعارف الاجتماعية المتداولة بين أفراد المجتمع الإنساني، وهي تشمل القيم والمعايير الأخلاقية والعادات والتقاليد والرموز التي تؤسس لشكل من التواصل بين الأفراد ونمط من العلاقات الإنسانية وكذلك لرؤية وتأويل خاص بهم لواقعهم التاريخي. ويعد مفهوم الحس المشترك من المفاهيم الأساسية التي اعتمدها دوبريل في تأسيس فلسفته التعددية السوسيولوجية؛ والأمر ينطبق أيضا على الفيلسوف بيرلمان الذي استعان بهذا المفهوم في إعادة قراءة وتأويل فلسفة القيم والأخلاق في نظرية البلاغة الجديدة.
للتوسع حول مفاهيم الأحادية والتعددية والحس المشترك، يُنظر على التتابع:
Sous la direction de MICHEL BLAY : Grand Dictionnaire de la Philosophie, Larousse/ CNRS éditions, 2003, pp. 685-688, p. 825, pp.955
ANDRÉ LALANDE : Vocabulaire Technique et Critique de la Philosophie, Presses Universitaire de France, 16e édition, 1926, pp. 648-650, p.783, pp.970-973
وفيما يخص جينالوجيا تطور مفهوم الحس المشترك، يُنظر:
Sous la direction de BARBARA CASSIN : Vocabulaire Européen Des Philosophies, éditions du Seuil/ Dictionnaires Le Robert, France, 2004, pp.1152-1153
هوامش المؤلف:
* افتتحت المجلة الدولية للفلسفة بهذا المقال عددها الذي خُصص حول مؤسس البلاغة الجديدة الفيلسوف وعالم القانون البلجيكي شاييم بيرلمان (1912-1984) بمناسبة انضمامه كعضو فخري ضمن هيئة أساتذة الشرف في جامعة بروكسل الحرة.
Chaïm Perelman : La Philosophie du Pluralisme et la Nouvelle Rhétorique, un article dans la Revue Internationale de Philosophie, La Nouvelle Rhétorique, The New Rhetoric, Essais en hommage à Chaïm Perelman, Bruxelles-Belgique, 33e années, N. 127-128, 1979, pp. 5-17
وهذا المقال هو في الأصل محاضرة ألقاها بيرلمان باللغة الانجليزية في جامعة ماكغيل في مدينة مونتريال
Texte original d’une leçon, faite en anglais, le 1er novembre 1977 à l’Université McGill, à Montréal
(1) E. Dupréel : Le Pluralisme Sociologique, Office de Publicité, Bruxelles, 1945, 80 pages.
(2) E. Dupréel, Sociologie générale, Presses Universitaires de France, Paris, 1948, p. 5.
(3) للمزيد حول جميع ما ورد أعلاه، يُنظر:
ibid., pp. 10 à 19
(4) Ibid., p. 20
(5) للتوسع حول العرض التحليلي المعمق للفيلسوف دوبريل عن هذا الموضوع، ينظر:
E. Dupréel, Traité de Morale, Éditions de l’Université de Bruxelles, 1967², vol. II, p. 398-440.
(6) أن ذلك العرض للدولة التعددية l’État pluralisteكما هو للدولة الأحادية والشمولية l’État moniste et totalitaire، لا يؤسس إلا "لنماذج مثالية" types idéaux حسب المعنى الوارد عند عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864-1920) حيث لا يكون الواقع إلا انعكاسا غير كاملا imparfaite لصور الكمال الخاصة بتلك النماذج.
(7) Cf. Ch. Perelman, Logique juridique, Dalloz, Paris, 1976, § 75.
(8) Cf. Ch. Perelman, Le problème des lacunes en droit, essai de synthèse, in Le problème des lacunes en droit, Bruylant, Bruxelles, 1968, pp. 547-548.
(9) حول مبدأ مصادرة ما هو مصادق عليه مبدئيا، وللتوسع حول القراءة التحليلية التي قدمها بيرلمان لهذا الموضوع الإشكالي، يُنظر:
Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca, Traité de l’argumentation. La nouvelle rhétorique (1958), Éditions de l’Université de Bruxelles, Bruxelles, 19763, § 28.
(10) حول فكرة الجمهور الكوني/الكلي، يُنظر:
Ch. Perelman et L. Olbrechts-Tyteca, Ibid., §§ 6 à 9.
(11) يُنظر:
Ch. Perelman, Philosophie, rhétorique, lieux communs, in Bulletin de la Classe des Lettres et des Sciences morales et politiques de l’Académie Royale de Belgique, 1972, pp. 144-156.
(12) يُنظر مقالي:
mon essai « peut-on fonder les droits de l’homme ? », in Droit, morale et philosophie, Librairie générale de Droit et de Jurisprudence, Paris, 1976², pp. 67 à 74.
**باحثة ومترجمة من العراق-متخصصة في الدراسات الفلسفية والحجاجية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق